ازدواجية شعار “المواساة” لدى الغرب

منذ بداية العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا، يشهد العالم ازدواجية شعارات “المواساة والإنسانية” التي لطالما ندّد بها الغرب لا سيما في خطاباته نحو الأطفال والنساء. وفي حين أن وطأة الحرب لا تختلف شدّتها على لون بشرة بيضاء أو سمراء، وكما أن الموت ليس له خطاً يتجاوز بعض الحدود، إلا أن تعامل الإعلام معهما اختلف، وتعرّى من أصله في التوازن.
تدفق ملايين اللاجئين الأوكرانيين إلى حدود أوروبية مختلفة واستُقبلوا برحابة صدر. لكن حينما يقف سوريون وعراقيون وفلسطينيون وأفغان عند تلك الحدود، يصف الأوروبيون الأمر بأنه “أزمة مهاجرين”. وإلى تاريخ 23 آذار (مارس)، وصل عدد اللاجئين الأوكرانيين إلى 3.6 مليون لاجئ، وفقاً لأحدث البيانات التي نشرتها منظمة الأمم المتحدة.
ومن الإنصاف، أن يستحق جميع البشر فرصة الحياة في أمان تحت سماء لا تمطر الرصاص وفي حدود دولة مستقلة، إلّا أن الإعلام الغربي لم يخجل في بث شرعية حصول أطفال على هذا الحق دون غيرهم؛ فقد ذكر مراسل قناة (سي بي أس) الأمريكية، شارلي داجاتا، عبر تغطية مباشرة، “هذا ليس مكاناً مع كل احترامي، يعني مثل العراق أو أفغانستان الذين شهدا صراعات محتدمة منذ عقود، كما تعرفون هذا مكان متحضر نسبياً، وأوروبي نسبياً، مدينة لا تتوقع حدوث ما يحصل فيها ولا نتمنى أن يحدث”.
وفي لغة مشابهة، نقلت مراسلة قناة (أن بي سي) الأمريكية، كيلي كوبيلا، “هؤلاء ليسوا لاجئين من سوريا، هؤلاء لاجئون من أوكرانيا، هؤلاء مسيحيون، إنهم بيض، إنهم يشبهوننا جداً”.
ألم يكن الأوكرانيون يبحثون عمّا بحث عنه كلّ فارًّ من أيّ حرب؟ وكيف من المتوقع أن يكون للـ”تحضّر” درعاً واقياً من ألغام أي حرب تُشَن؟
ولم تقتصر المسألة على الإعلام، بل سجّل سياسيون وقادة أيضاً مواقفهم التي سجلت نحوهم العديد من إشارات الاستفهام؛ وأثار تعليق النائب العام السابق لأوكرانيا، ديفيد ساكفارليدزي، غضب روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، حيث ذكر عبر مداخلة له في (بي بي سي)، “إنّ ما يجري مؤثر للغاية بالنسبة لي، لأنني أرى الأوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر يقتلون”.
وعبر كلمة رسمية له، قال رئيس وزراء بلغاريا، كيريل بيتكوف، “اللاجئون الأوكرانيون ليسوا من اللاجئين الذين اعتدنا عليهم، لذلك سنرحب بهم، هؤلاء أوروبيون أذكياء ومتعلمون، ولا يملكون ماضياً غامضاً، كأن يكونوا إرهابيين”، وفقاً للترجمة التي نقلتها (واشنطن بوست).
لم يسلم اللاجئ العربي أو المسلم من أي نوع من الاتّهام؛ فحتى في أزمات شعوب أخرى “متحضرة”، لم يسلم من اللّوم، وكأنه من اختار إجلاء نفسه، وسرقة مفتاح بيته، واغتيال سلمه. مرّ على احتلال فلسطين 74 عاماً، وعشرات العقوبات المعلّقة ضدّ إسرائيل التي لها شرعية دولية اليوم؛ وخلال أيام قليلة من بدء العملية الروسية في أوكرانيا، قدم الغرب كل بيانات التضامن والاستنكار وفرض على روسيا عقوبات طالت الاقتصاد وحتى القطط والرياضة والأفلام.
وأدان مجلس الأمن العملية العسكرية التي شنتها روسيا على أوكرانيا منذ الشهر الماضي، وأشار نَص مشروع القرار إلى الأسف للغزو روسيا لأوكرانيا، ومن الدول المؤيدة للقرار، إسرائيل، التي رحبت بيهود أوكرانيا.
ومن المثير للاهتمام، تعليق صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية التي ذكرت، “ليس لدى إسرائيل أي سبب للتدخل في حروب ليست لها، ناهيك عن أن إدانة العدوان والاحتلال الروسيَين قد تبدو غريبة بعض الشيء من قِبَل (وزير الخارجية يائير لابيد) عضو مجلس الوزراء رفيع المستوى، في دولة احتلت منذ ما يقرب من 55 عامًا احتلالًا عسكريًا ملايين المواطنين المحرومين”. وفقاً لما نقلته وكالة الأناضول.
وفي عنوان آخر لمقال على (هآرتس) “اتحد العالم لفرض العقوبات على روسيا. لماذا لا تفعل الشيء نفسه بالنسبة للفلسطينيين؟”
كيف استطاع العالم إجماع “الغزو” الروسي على أوكرانيا واعتبرها احتلالاً، في حين أظهر ازدواجيته في قضية احتلال إسرائيل لفلسطين وتغاضيها عنها، ولاسيما لمحاصرتها لغزة والقطاع الغربي الذي يوصَف بـ”السجن الكبير” على مرّ عشرات الأعوام؟ وأين حقوق الطفل والمرأة من العنف والاعتقالات في حق الأطفال ووصفهم بـ”الإرهابين” وتطبيق العنف ضدهم، في حين يتم التصفيق للأوكرانيين لاستخدامهم لل”مولتوف” دفاعاً عن نفسهم وأرضهم؟
إذا كان الأمر مرتبط بالعيون الزرقاء والشعر الأشقر، فشهدت قصة الفتاة الفلسطينية عهد التميمي مواليد 2001 صاحبة الشعر الأشقر والعيون الملونة، ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي إثر مواجهتها لجندي إسرائيلي في 2017، حيث اعتقلت إثرها، ووجه لها 12 اتهاماً رسمياً من ضمنها توجيه تهديدات، وإلقاء حجارة (وعمرها 16 عاماً). إلا أن الإعلام الغربي لم يتأثر مع جمالها الغربي وكثر أمثالها في المخيمات مثلما تعاطف مع “الشقر” في أوكرانيا.
لكن لا يمكن إنكار أن حراك بعض النشطاء والمسؤولين في العالم يثلج صدر الفلسطينيين والعرب، بعد أن قارن الكثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي بين آراء الدول في القضيتين، حيث ذكر عضو البرلمان الإيطالي، أليساندرو دبي باتيستا، “أطالب المجتمع الدولي المنافق بتسليح الفلسطينيين للدفاع عن أنفسهم كما يفعل مع الأوكرانيين”، وفقاً لوكالة شهاب للأنباء.
ولم تسقط الرياضة عن طاولة الازدواجية؛ فقد نصّ قرار الاتحاد الدولي لكرة القدم على “منع لعب أي منافسة دولية على أراض روسية، ولكن على أرض محايدة دون متفرجين”.
وأشار القرار إلى أن “المنتخب الوطني لن يشارك تحت اسم روسيا، بل تحت مسمى الاتحاد الروسي لكرة القدم، فيما لن يُسمح بعلم أو نشيد روسيا الوطني في المباريات”.
وفي 2016، غُرّم نادي “سلتيك” الأسكتلدني بنحو 11500 دولار بسبب رفع جماهيره أعلام فلسطين خلال مباراته ضد “هابويل بئر السبع” الإسرائيلي، في تصفيات دوري أبطال أوروبا، وفقاً لموقع العربي.
وعبر حسابه الخاص في “تويتر”، نشر اللاعب المصري محمد أبوتريكة، “قرار منع الأندية الروسية والمنتخبات من المشاركة في كافة البطولات لازم يكون معه منع مشاركة الأندية والمنتخبات التابعة للكيان الصهيوني لأنه محتل ويقتل الأطفال والنساء في فلسطين منذ سنين ولكنكم تكيلوا بمكيالين”.
وفي 2008 وجه الاتحاد لأبوتريكة تحذيرًا يزعم “خرق لوائح الاتحاد القاضية بمنع رفع أي شعار سياسي أو ديني خلال المباريات”، وهذا عقب ارتدائه قميصًا كُتب عليه شعار “تعاطفًا مع غزة” بعد تسجيله هدفًا ضد السودان في كأس الأمم الإفريقية، وفقاً لموقع العربي.
إلا أن النزاع الروسي الأوكراني نزع مظلّة العنصرية وكشفها، وقَبِلَ خرق الرياضة بالسياسة للضغط على روسيا؛ فلماذا تتبدل الأجندات والإنسانيات حسب المنطقة التي تتعرض للغزو؟
ولم ننس حصة مواقع التواصل الاجتماعي التي أعلنت خرق قواعدها لدعم أوكرانيا، مما اضطرّ روسيا لحظر “إنستغرام” بسبب “دعوات للعنف” ضد الجنود الروس، حيث سمح فيسبوك بنشر المحتوى الداعي للعنف والكراهية ضد الغزاة الروس، وفقاً لـ (بي بي سي). وللمفارقة الهزلية التي اختبرتها شخصياً، يعتبر نشر أي شيء يخص “فلسطين” محتوى حساس ويدعو للعنف على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تعمل خوارزميات “ميتا” على حجب أي منشور يتضمن “فلسطين” مهما كان محتواه.
لا تفرق بشاعة الحرب على جنس أو عرق، ولا يُؤَيّد عنف على دين دون آخر، ومن حق شعب أوكرانيا البحث عن مأوى آمن يضمن لأطفالهم حياة مستقرة، كما يحق أيضاً لكل القاطنين على هذا الكوكب.
تحرير: هبة الحمارنة