في اندونيسيا

كنتُ مستلقية على شاطئ البحر في اندونيسيا أستمتع بالنسيم وأشعة الشمس التي تداعب جسدي. جلست هناك تاركة الأفكار والتساؤلات التي تتربص بي وتحوم في غرفتي وحيدة. أردت الظفر بعدة ساعات لي وحدي بعيداً عن تلك التساؤلات التي أطرحها على نفسي عن نفسي، ومن دون تلك الأفكار التي أنقشها على جدران شخصيتي ثم أحاول ترميمها.
اكتفيت بالاستماع إلى الأغاني التي لا تحرك روحي أو توقظ عقلي الذي يحاول مراراً تحرير كل ما حبسته في الفندق.
سمحت لنفسي أن تبتعد عن نفسي، وأن تكون شخصاً آخر لا يشبهني أبداً اليوم.
بدأت استسلم للنعاس، وبدأ جسدي يرتخي سامحاً للنسيم أن يحمله كالريشة. كنت على وشك أن أسلم نفسي للنوم، لولا صوت تلك المرأة التي تخاطبني باللغة الإنجليزية “مرحباً كيف حالك؟ عليك أن تنتبهي، فالشمس قد تبدو غير قوية لكنها ليست كذلك …انتبهي”. نظرت إلى المرأة، وبدأ عقلي الذي لا يسأم من التفكير والتحليل بدراسة ملامحها: بيضاء البشرة، في أوائل الستين، عينان زرقاوان صافيتان، وأسنان بيضاء، وابتسامة رقيقة. تباً، ها قد عادت نفسي إلي واستطاع عقلي اللعين تحرير الطاغية مجدداً.
ابتسمتُ قليلاً ثم قلت لها إنني آتية من دبي.. لم أكد أنهي الجملة حتى قاطعتني ضحكتها: “إذاً هذه الشمس ليست عدواً لك.. أنا قادمة من الولايات المتحدة ولكنني كندية الأصل لذا لست معتادة على هذا الجو أبداً”.
نظرت إليّ ولا أعرف كيف بدأنا حديثنا، ولكنني أتذكر أننا تناقشنا في كثير من الأمور من الدين الى الانتخابات الأمريكية، حيث استنبطت أنها وعلى الأرجح من مؤيدي كلينتون لكونها (وهذا ما أضحك عقلي) إعصاراً أقل ضرراً من غيرها، وبخاصة تجاه ترامب الذي وصفته “يوم قيامة دون قيام إذا استلم الرئاسة”.
كلمتني روبيرتا عن عملها الذي يسمح لها بالسفر إلى بلاد مختلفة، وحدثتني عن رحلتها الى أفغانستان كمتدربة في مجال التمريض، حيث قالت وأتذكر كلماتها جيداً “ذهبت الى أفغانستان قبل كل ذلك الخراب الذي لم يجدر به أن يحدث، فالشعب الأفغاني شعب طيب ومحب حقاً، لكن للأسف …”!
أخبرتني عن زوجها الذي توفي مؤخراً، فما أن أتت على سيرته حتى أصبحت نبرة صوتها أكثر حنيّة، وأحسست بأنها تفتقده وتحبه حقاً.
لم أعتمد على أحاسيسي فحسب للتوصل إلى هذا الإستنتاج، بل وكالعادة قرر عقلي أن يدرس حركاتها، فلاحظت بأنها وبمجرد التكلم عنه بدأت بتحريك الخاتم الذي على بنصرها، ومن ثم تأكدت من فرضيتي وابتسمت مع أن عينيها كانتا تحدقان بالخاتم، ولا ترى الإبتسامة التي ارتسمت على وجهي.
قالت روبيرتا الكثير ككل البشر الذين تعرفت عليهم، ولكنها وعلى عكس الجميع أرتني الكثير أيضاً. لقد رأيت فيها كل ما ليس من حولي، رأيت سيدة محبة للحياة، تعشق المغامرات…وتقيس العمر بالخبرة والعلم لا بالأرقام والأوجاع. رأيت إنساناً يملك إنسانية، وحباً وقوة وتمسكاً بالحياة والأمل بغد أفضل.
ظننت بأنني أفكر وأخطط كثيراً، وحسبت أنّ علي الهرب من نفسي ومن كل تلك المخططات، وكنت على يقين بأنني أعرف ما أريد ومتى، لكن روبيرتا غيرت هذا كله عندما سألتني “ماذا عنك؟ أين وجهتك التالية؟ وما المكان الذي تحلمين بزيارته”؟
نظرت الى البحار الزرقاء في عينيها، حيث صدمتني الرياح المفاجئة، وهزمت أشرعتي، وحطمت زورقي، وسرقت مني سيطرتي، وانتزعت لقبي.
تلعثمت، وحاول عقلي أن يجد جواباً لسؤالها، فهو لم يهزم مسبقاً. بدأ يبحث بين رف المخططات، ثم رف الأحلام، ثم رف الروايات. تناثر كل شيء، ولم يجد شيئاً، فقلت وقد استسلمت للواقع “لا أعلم …لم أفكر بهذا بعد”
نظرت إليّ روبيرتا مبتسمة، وقالت وهي تلم أغراضها وتستعد للرحيل: ها قد منحتك شيئاً لتفكري به ملياً على شاطئ البحر. لا تنسي أن تحترسي، فالشمس قوية ولا تملكين وقتاً للصداع، فأمامك سؤال يحتاج إلى إجابات.
ذهبت روبيرتا تاركة وراءها عقلي يرتب الرفوف، ويرمم النقوش، ويبحث عن مرفأ بعيد وشاطئ بحر جديد وروبيرتا مختلفة.