السعادة بمفهوم آخر

ينهض إدريس كلّ نهار من سريره الصغير وفوق رأسه سرير آخر إن رفع رأسه بقوة نزف. بخطوة أو بخطوتين يصل إلى مغسلة الحمام ليفرش أسنانه بفرشاة أسنانه التي لم يبدلها منذ سنتين. يفتح باب الغرفة ليتناول قميصاً من على المنشر الذي يتوسط مدخل العمارة. بهدوء ينتعل حذاءه وينتقل إلى غرفة التنظيف ليمسك بممسحته التي أسماها “حبيبتي الصفراء” ويطلق صوته الشجي ويبدأ في أداء أغان شعبية سييريلانكية. يسافرإدريس بهذه الألحان ويبدأ بالكنس متجاهلاً نظرات بعض السكان الذين يرتدون أجمل الملابس من بزغة الصباح متجهين إلى المرآب لركوب سياراتهم، متجهين إلى العمل وعلى وجوههم الشاحبة غضب الاستيقاظ وحواجبهم معقودة وكأنها مخاطة على هذا السبيل متجاهلين إدريس. بعضهم يلقي التحية على إدريس وعلى وجوههم همة العمل والنشاط. “هلا كيف حالك إدريس؟” إدريس: “تمام الحمدلله، انت كيف حالك أرباب؟”.
وبعد خمس ساعات متواصلة من العمل، ينتقل إدريس إلى غرفته ليقابل زميله في السكن الذي قضى وقته بتنظيف سيارات سكان العمارة، ويخرجان لمطعم قريب للحصول على وجبة “البرياني” التي لا يتعدى سعرها الخمسة دراهم وكوب من الشاي بدرهم واحد. يعودان إلى غرفتهما وبعدها ينفصلان ويعود كل منهما إلى عمله حتى الساعة التاسعة مساءً.

يقول إدريس: “يوم الخميس أو الجمعة نذهب إلى شارع إلكترا أو الكورنيش، وألتقي بأصدقائي الآخرين ونتبادل أطراف الحديث. أنا لا أجني أكثر من ألف درهم في الشهر ولكن الحمدلله أنا مستمتع بحياتي.”
وبسؤاله أي استمتاع هذا؟ هل الاستمتاع بوجبة البرياني أم في كوب الشاي؟ أم في “نظرة الإزدراء” من بعض السكان؟ أم في غرفته التي لا تتعدى مساحتها مترين في متر؟ أم في السرير الذي يعتلي رأسه كل ليلة؟ يقول إدريس (36 سنة): “إن لم أستيقظ وأجد ذلك السرير فوقي فلن أكون سعيداً لأنني سأعرف أن زميلي قد رحل، فسعادتي هي بمشاركة زميلي هذه الغرفة معي”.

حياة إدريس شبيهة بحياة آلاف العمال في دولة الإمارات الذين يشغلون وظائف متنوعة، فمنهم الحلاق، وسائق الباص، وبائع الخضار، ومنظف الحمامات، وسواهم، فتكاد لا تخطو خطوة واحدة في شوارع الامارات إلى ووجدتهم محشويين بها.
وفي نظر كثيرين، فإن حياة إدريس ليست هانئة، فبعضهم يلون أحلامه ببيت فاخر أو سيارة حديثة أو مال وفير. والبعض يظن أن السعادة لا تكتمل إلا بوجود المال والثراء.
تقول موظفة إحدى البنوك الخاصّة آنجيلا روبن: “من المستحيل أن ترى هؤلاء العمال الذين يتقاضون 1000 أو 2000 درهم في الشهر بوجه بشوش، فهذا المقدار من المال لا يستطيع صنع السعادة”.لكنّ سائق الباص عبدالرحمن خان يؤكد: ” أتقاضى في الشهر ما يقارب الألفين أو الثلاثة، فآكل بخمسمئة درهم وأرسل الباقي إلى عائلتي الصغيرة في باكستان، هم مرتاحون هناك، يأكلون ويشربون وينامون، وأطفالي يذهبون إلى المدرسة، الحمدلله أنا على هذا الحال منذ 30 سنة وأشعر أنها حياة رائعة”.

Yusra 2

ولدى السعادة معنى آخر عند الحلاق مرتضى سلامة: “أشعر بالسعادة عندما أمسك المقص بيدي وأبدأ بقص شعر الزبائن، أحب رؤية نظرة الرضى على أعينهم، أشعر بالفخر، فأظن إنه هنا تكمن سعادتي، مع أني أعمل تسع ساعات في اليوم، ولكني أستمتع بكل لحظة”.
أظهرت دراسةأجرتها شركة “Global Well-being Index ” عن أسعد شعوب العالم 2014، أنّ الدول التي احتلت صدارة القائمة: “كوستاريكا، الدنمارك، النمسا، البرازيل، السلفادور، الأوراغوي…” وذكر الموقع الإلكتروني لقناة “روسيا اليوم” أن الاستبيان تضمن الوضع المالي، والحياة الاجتماعية، وعلاقتهم مع الأقرباء، وصحتهم. وبين الاستطلاع أن مؤشر السعادة في كل من أمريكا وكندا بلغ 30%، وكان هذا بسبب عدم تصدر المال كمؤشر للسعادة، وذكر الباحثون أن سبب ارتفاع مؤشر السعادة في أمريكا اللاتينية، هو تأثير الشعور الوطني في هذه الدول الذي يحفز حب الحياة والعلاقات الإيجابية.

لا شك في أن المال يعطي لوناً للحياة والبعض أكد أن هذا اللون هو اللون الوحيد لحياة سعيدة وهنيئة. شعبة من سكان أرض الإمارات أكدوا أن ذوي الدخل البسيط ليسوا سعداء ولن يصلوا لمرحلة السعادة مع هذا الكم البسيط من الدراهم.
فتقول الطالبة الجامعية فاطمة المشرف (20 سنة): “السعادة نقود وهم ليس لديهم نقود”
ويقول الطالب الجامعي عباد خليفة (22 سنة) “بالتأكيد هم ليسوا سعداء سعيدين لأنهم لم يتعلموا ولم يدخلوا المدارس.”
أما الشرطي سالم العتيبي يقول: “أنا بصراحة لا آراهم سعداء”
لماذا يرى هؤلاء الأشخاص التعاسة في أعين هؤلاء الأفراد، لماذا لا يعترفوا بسعادتهم؟
ترى مدرسة علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية في دبي الدكتورة دينيز جوبلك أنّ “المشكلة تكمن في أن كل شخص يحكم على سعادة الآخرين من خلال معاييره الخاصة، ولكن في الحقيقة يختلف معنى السعادة من شخص لآخر، وأضافت أيضاً “أن البعض يرى السعادة في سيارة فاخرة أو بيت واسع، ولكن الأفراد البسطاء يرون السعادة في العلاقات التي بنوها، أو في أبنائهم الذين يعيشون على بقعة أخرى، هذه العلاقات هي التي تساعدهم على التشبث بالحياة والسعادة عند رؤيتهم”.
إن الدراهم كالمراهم / تجبر العظم الكسيرا
لو نالهن ثعيلب / في قومه أضحى أميرا

بيت شعر ممزوج بالصحة، فبكثرة المال يكبر الاحترام، ولكن هل اكتساب الاحترام يعني اكتساب السعادة؟
يقول طه عبدالقادر (30 سنة): “على العكس لن أفضل أن أكون أغنياً على حساب خوصيتي وأشعر أن كل حركة أخطوها مراقبة أو حتى مسجلة.” أمّا سمية عمر(22 سنة) فتقول: “من الجميل أن يكون الشخص محترم من قبل الجميع ولكن لكل شيء ثمن.” وعواطف عبدالوهاب (50 سنة) ترى أنّ: ” هناك فرق كبير بين الاحترام والسعادة، وتظن الأغلبية أن المال يولد الاحترام والسعادة أيضاً، من الصحيح أن الشخص يكتسب الاحترام ولكن لن يكتسب السعادة، هناك كثير من الأغنياء تعساء.”
ويسهب التاريخ بحكايات كثيرة، من بينها ما جرى لزوجة معاوية بن أبي سفيان ميسون البحدلية وهي واقفة على شرفة قصرها بعد أن تزوجها معاوية وأبعدها عن أهلها وقريتها، حيث شعرت بالغربة والأسى رغم كل النعيم، فهتفت منشدة:
لبيت تخفق الارياح فيه *** أحبُ إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني *** أحبُ الي من لبس الشفوف
وأكل كسيرة من كسر بيتي *** أحبُ إلي من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فج *** أحبُ إلى من نقر الدفوف
بعد أن ينهي إدريس عمله الساعة التاسعة يعود إلى “قصره” الصغير ويرفع هاتفه النقال القديم ويتصل بعائلته في بنغلادش حيث تشير الساعة عندهم إلى الحادية عشر مساءً، المكالمة تستغرق خمس دقائق فقط لكنها بمثابة جرعة كافية له ليبتسم في ذلك اليوم. وبعد إنهاء المكالمة يفتح محفظته السوداء الصغيرة ويعيد النظر في “ميزانيته” ويحسب ما أنفق. وبعدها يضعها جانباً ويحتضن وسادته، ويبدأ في حديث قصير مع زميله ينهيانه بضحك، ثم يبتسم ويغط في نوم عميق.

Please follow and like us:

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial
EMAIL
Facebook
INSTAGRAM