التهمة: فكرة!

قاعة ممتلئة، بدلات أنيقة، وابتسامات متناثرة… المكان: برلين الألمانية، الزمان: أمسية السبت الماضي، المناسبة: مهرجان برلين السنيمائي في دورتِه الخامسة والستين. مرَّ ما يقارب الساعة، أُعلن عن الفائزين جميعًا، وسُلّمت كلّ الجوائز إلى أصحابها… باستثناء واحدة.

دارين أرنوفسكي، رئيس لجنة تحكيم المهرجان، يتقدّم إلى وسط المسرح، فيُخيِّم على الحضور صمت العالِمين بما سيحدث. وبعد مقدّمةٍ وجيزةٍ يُعلن أنّ الفيلم الفائز بجائزة الدبّ الذهبيّ هو “تاكسي” للمخرج الإيرانيّ جعفر بناهي. غير أنّ بناهي لم يصعد هذه المرّة إلى المسرح، لأنّه في تلك اللحظة كان قابعًا داخل إقامته الجبريّة في إيران. وفي مشهدٍ استثنائيٍّ مشحونٍ بالعواطف، توجّه مدير المهرجان بالجائزة نحو طفلةٍ بين الحضور، هي في الواقع ابنةُ أخ بناهي وإحدى بطلات الفيلم، ليأخذ بيدها إلى المسرح حيث رَفعت الجائزةَ عاليًا وهي تحاول حبس دموعها أمام الجمهورِ المصفّقِ بحرارة.

بناهي الذي أُجبر على أن يجلس أمام شاشة التلفزيون ويشاهد حُلمه في الِضفّة الأخرى من العالم، سبق وأن مُنِع عنه الفن، والسفر والخروج من المنزل، بعد أن أُلقِي عليه القبض سنة 2010 نتيجة محاولته توثيق المظاهرات التي عقبت إعادة انتخاب أحمدي نجاد. الغريب أنه هذا الفيلم الذي هُرِّب إلى الخارج بشكلٍ سريًّ، لم يكن يحمل أيّ طابعٍ هجوميّ، فهو مبنيّ على فكرةٍ بسيطة يَظهر فيها بناهي كسائق سيارة أجرة، يجوب شوارع طهران ويُصوِّر أحاديث وتفاعلات زبائنه الذين يَروون واقعهم ويُبدون آراءهم حول مواضيع مختلفة ذات صلة بقضايا البلاد.

لكن يبدو أنّ هذا العالم أضيقُ من أن يتّسع “لتاكسي” وأنّ الفن قد يكون آخر نافذة حريّة تغلقها بعض البلدان التي تهابُ الفكرةَ والصورةَ والقلم. في الواقع، هذه الظاهرةُ لا تنحصر ببلدٍ بعينه أو بخصوصيّات الأنظمةِ الشموليّةِ، التي تسقي شعوبها الحريات بقُمع مسدود تحت ذريعةِ الرقابة الأخلاقيّة والوِصاية الدينيّة والحفاظ على الإستقرار، لأنّها – وعلى الرغم من جهل أو تجاهل الكثيرين- تحدث أحيانًا في الأنظمة “الديمقراطيّة” كذلك. كما أنّها قد تبدو أسوأ إذا نظرنا إليها على نطاق أصغر، من حيث العراقيل اليوميّة والممارسات التعسفيّة الفرديّة التي تقام في حقّ الحريات الفنّيّة. فكم من كلمة تَهتَرِأُ الآن في دُرج رئيس تحرير وكم من فكرةٍ تناضل في مخاض عسيرٍ لتدوسها فيما بعد قوانين بموازين مزدوجة، وكم من رحلةٍ بيروقراطية يخوضها مبدعون للحصول على تصاريح بالتفكير والإبداع.

الجائزة سواء جاءت كتكريم لقيمة فنّيّة كبيرة أو كدعمٍ إنسانيّ لقضية، هي في كل الأحوال انتصار معنويّ لجميع الأفكار العزلاء التي لسبب ما تجد نفسها في مواجهة حكومات وأنظمة بأكملها.

Please follow and like us:

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial
EMAIL
Facebook
INSTAGRAM