و هل يستحيل الدم ماءا

محاطا بالأهل و الأصدقاء و الزغاريد و الضحكات يخرج خالد من “سجن الزرقاء” بعد أن قضى بين أسواره فترة لا تتجاوز الشهرين. لا, ليس خالد متهما تمت تبرئته من جريمة لم تقترفها يداه, با إنه مجرم يحمل على يديه دم أخته الوحيدة التي ذبحها بدم بارد بعد أن شكك في عذريتها. إلا أنه بنظر أسرته و مجتمعه و حتى حكومته بطل شجاع خلص نفسه و أسرته من عار كان ليلحق بهم إلى أبد الآبدين.
و مثل قصة خالد كثير و كثير حتى أصبحت “جريمة الشرف” عنصرا ثابتا في الصحف اليومية و المجلات و المدونات الإليكترونية. لقد أصبحت جزءا من ثقافة شريحة كبيرة من مجتمع تربى على أن المرأة فيه هي “ضلع قاصر” خاضعة لسلطة الرجل الذي يحل له أن يفعل بها ما يشاء و أن يحاسبها بالطريقة التي يرتئيها عندما تخطأ في نظره أو تزل عن السراط المستقيم الذي رسمه و حدده هو لها . .
ربما قد نستائل كيف يمكن لرجل أن يقتل زوجته, أو لأخ أن يذبح أخته بدم بارد؟ و ما هي هذه الجريمة التي استحقت بموجبها أن تحرم حقها في الحياة مبررا ذلك بأنه “يغسل شرفه” الذي تلطخ أو ليخلص نفسه و عائلته من العار الذي ألحق بهم. و كم أستغرب أننا اصطلحنا على تسمية هذه الجريمة النكراء ب ” جريمة شرف” مع أنها بعيدة كل البعد من أن تكون متصلة بالشرف أو غسل العار كما يبررها مرتكبوها. فمنذ متى نصب البشر أنفسهم قضاة يحكمون على نسائهم بالموت لمجرد الشك في سلوكهن. و لربما نتسائل كيف يمكن لشاب مثقف أن يقتل أخته لمجرد أنه شكك في سلوكها . ليست جريمة الشرف مرتبطة بدين أو شعب أو ثقافة معينة. ليست كذلك حكرا على الجاهلين. و أقصد بالجاهلين من لم تتاح لهم فرصة الالتحاق بالتعليم المدرسي و الجامعي . .
جريمة الشرف هي عادة قبلية مرتبطة بمفهوم أزلي لدى العرب بأن الدم بغسل العار . إنها مبادىء و أسس تربى عليها أجيال و أجيال تحقر من شأن المرأة و ترفع من شأن الرجل . .
يعود ذلك على الأغلب إلى مفهوم الثقافة عندنا. ليست الثقافة مجرد شهادات نحصلها من المدارس و الجامعات. إنها مبادىء و قيم نغرسها في نفوس أبناءنا و بناتنا إن من الثقافة و الوعي أن يربي الأب أولاده أولادا و بناتا على المحبة و المساواة, على عكس ما يفعله الكثير من الأهل من التدليل المفرط للابن و تنصيبه “مسؤولا” عن أخته ليراقب تحركاتها و يتحكم في كل ما يخصها.ليس ذلك لحمايتها, بل ليحمي نفسه و عائلته من أي تصرف قد يعرض شرف العائلة الكريمة للدنس.
يتعلم ذلك قبل أن يتعلم كيف يحب أخته يصادقها و يحاورها , و تتربى هي على أنها مصدر عار يجب أن تخضع خضوعا تام و تحب و تسلب حرياتها و تقصر علاقتها بأبيهاو أخيها و الذكور من عائلتها بشكل عام على الخوف و السخط. تتربى على أنها غير جديرة بالحرية أو بأي حق يمتلكه أخوها الشاب فهو ” شو ما عمل بضل شب “و هي مخلوقة من ضلع أعوج”.” .
و هنا يولد هذا المزيج من الكبت و هضم الحقوق لدى الفتاة مع التدليل المفرط و الحرية الامحدودة لدى الشاب فتاة مكبوتة تبحث عن الحب الذي افتقدته في نموذج الأب و الأخ لديها لتمشي في طريق قد يؤدي بها إلى الضياع. و هذا الأخ الذي تربى على أنه الرجل المسيطر و المهيمن على أمه و أخواته, كيف له أن يحب زوجته و بنته في المستقبل و هو لم يتعلم أصلا كيف يحب و يحترم أمه و أخته؟؟ ,
لم أعد أدري هل العيب منا أم العيب من الدستور الذي يسهل على شبابنا ارتكاب مثل هذا النوع من الجرائم بدم بارد عاذرا إياهم و مقصرا عقوبتهم على بضعة أشهر لا تعدو عن كونها شكليات قانونية .
و لكن سواء ألقينا اللوم على البيت و التربية أم على القانون الدستوري المتساهل فإن النتيجة واحدة. فعلى الرغم من أن شعوبنا قد تمدنت ميدانيا و ظاهريا إلا أن عادات و جهل القبليين لا زالت تحكم حياتهم و تقيد عقولهم . .
Please follow and like us: