العودة إلى قابيل وهابيل

منذ فجر الخليقة  والإنسان في صراع مع الآخر. منذ عصر قابيل وهابيل  كانت القصة الشهيرة لأول جريمة قتل في تاريخ البشرية في سبيل الأفضل والأكمل. إن عصر قابيل وهابيل ليس ببعيد عن عصرنا هذا في مدى وحشية العداوة التي قد تتولد بين أقرب الناس، الأشقاء والأهل والإخوة الذين  يربطهم الدم ورباط القربى، فما بالنا بمن سواهم  من الغرباء؟ ما بالنا بسكان هذا العالم الذين يختلفون بأشكالهم  وأعراقهم وأديانهم وانتماءاتهم الطائفية والسياسية والاجتماعية؟  ذلك الآخر الذي يشكل أقلية كنقطة مهملة في لوحة تعج بالألوان،  كقطرة في بحر لجي، كطيف في مجموعة لا متناهية من الأطياف، ما موقعه في هذه الفوضى؟ أهو حامل البندقية و موجهّها نحونا؟ أم أنه الواقف أمام فوهتها بانتظار طلقة محتملة؟

إنه من المثير للعجب بل و للاشمئزاز أن البشرية قد استطاعت أن تقطع أشواطاً في التطور العلمي والتكنولوجي فقرّبت البعيد و قصّرت المسافات، و عانقت الحضارات والثقافات بعضها البعض، دون أن تستطيع تخليص بعض القلوب من تحجّرها، أو غسل بعض العقول من صدئها،  فظلت براثن العنصرية تنخر في عظم الإنسانية على هذا الكوكب.

لا شك في أن العنصرية أصبحت أكثر من موضوع نقرأ عنه في صحيفة يومية، أو يتشدق بمناهضته الحقوقيون و الديمقراطيون، بل إنها أصبحت سمّاً يتجرعه الأطفال منذ الصغر دون عمد. فنصوّر الآخر لهم في صورة الوحش الذي يريد بهم سوءاً أو العبد الذليل الذي يقل عنهم في المنزلة الإنسانية. فاليهودي يهودي وإن لم يكن صهيونياً، والهندي خادم وإن كان كأي  موظف آخر ذي بشرة أفتح لوناً، وغير المسلم كافر نهايته النار ولو كان محسناً.  أبعد كل هذا نتساءل عن أسباب الحروب الأهلية والعدوان والإرهاب ونحن باذروه؟ نحن زرعناه ونحن في نهاية المطاف  سنحصده.

إن العنصرية لم تعتمل في نفوس البشر في ليلة وضحاها، وإنما هي وليدة سنوات من التبلور. سنوات أخذت العنصرية تمد خلالها جذورها في الجنس البشري، فتغلغلت في كل نواحي الحياة، وفرقت بين البشر بكل الأشكال الممكنة. ولم تكن يوماً غائبة في زخم الحضارة والتقدم المدني والمعرفي، لكنها كانت ومازالت تأخذ أشكالاً أخرى، فربما لا تجد في أيامنا هذه مطعماً يضع لافتة مكتوب عليها “يمنع دخول الكلاب و ذوي البشرة السوداء” كما كان يحدث في أمريكا في الخمسينات، لكنك بلا شك–عزيزي القارئ-  لازلت ترى وضع الإنسان الأسود في خريطة الوجود الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية حتى يومنا هذا.

وفي عالمنا العربي ،  مازالت العنصرية حاضرة اجتماعياً. وقد امتدت أذرعها إلى السياسة. فها هي الحرب الأهلية في لبنان خير شاهد على ما يمكن أن ينتج عن العنصرية، و ها هي النظم السياسية القمعية خير دليل على سيادة سياسة “أنا ومن بعدي الطوفان” التي تنضوي كل تفاصيلها تحت غطاء العنصرية العمياء. أوطاننا العربية متشرذمة رغم وجود روابط اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد فيما بينها. ذلك لأننا نعاني من العنصرية فيما بيننا ومن عنصرية المجتمع الدولي حيال قضايانا.  فالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من ستين سنة مثال حي على ازدواجية المعايير التي تحكمها الأعراق و الأديان وليس الإنسانية.

إننا لا نحتاج إلى زرع ثقافة “قبول الآخر” في نفوس أبنائنا، بل نحن أحوج ما نكون إلى ثقافة “حق الآخر”. هذه الثقافة التي لا تتقبل الآخر لمجرد وجوده، بل تمنحه حقاً في هذا الوجود، وتعتقد أنه مساوٍ للذات فيما له وما عليه. لكي تحلّ أزمة  الطوائف يجب أن يؤمن كل  منها بأن للآخر حق مماثل في الوجود وأن الوطن ملك لجميع أبنائه بلا تمييز، ويبدأ ذلك بالتخلي عن استخدام الألقاب و المسميات وذكر الفوارق الدينية والعرقية. يجب أن يتخلى كل طرف عن أنانيته ونرجسيته، ويجب أن تحفل الأوطان بهؤلاء الذين يؤمنون بأن الدين لله والوطن للجميع، هؤلاء الذين يمدون وردة في وجه الآخر المختلف عنهم في معتقده، المشترك معهم في الوطنية والانتماء.

Please follow and like us:

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial
EMAIL
Facebook
INSTAGRAM