نسيتُ الياسمين

أن تكون سورياً يعني أكثر من مجرد شمّك للياسمين، والتغزّل بالحارات المليئة بالحنين، نعم أنا عاشقة هذه الأمور وأعترف أنّ “شآم” أصبحت أعقد بكثير، تراجعت عقوداً للوراء، في حين وصل العالم إلى ألفين وواحد وعشرين.
شعبي يحاول التأقلم، وكلنا ندرك أنّ كونك سورياً يضمن لك الشعور الدائم بالشوق، لماذا تحديداً لا أعرف، فنحن بطبعنا شعب مضاد للصدمات، ولكن يبقى بكل جبروته حساساً.
نشتاق… نشتاق لزيارة الوطن وللهرب منه في آن واحد، نعم هذا سحر دمشق وإدمانها، فيها شيء رباني يجعلنا نشتاق لها، رغم كل ما أصابنا بسببها. دمشق تأسرنا، ليس فقط بجمالها، بل هي حرفياً تأسرنا في لعنة لن تفارقنا، بكل صراحة الفاتورة التي دفعناها وما زلنا نتحمل ضرائبها أكبر مما طلبنا ومما يمكننا تحمله بكثير.
السوري كائن شاعري يبقى يحس بمرارة الغربة مهما تمتع بالنعيم، هذا ما حدث لي، هذا الإحساس وألم الفراق يجعلانك تزور الوطن الغالي، في حين تطلق العنان لمخيلتك وتسمح لها بالحلم، لتصطدم بأنّ من فيه ينامون ويصحون على أمل الهجرة منه، فهو الذي حَجّمَ أحلامهم وأسر طموحاتهم، فجعل أقصى مطالبهم الخروج منه. لا يهم ما يحدث بعد ذلك، المهم أن يغادروه. أمام أبواب الهجرة والجوازات سمعت من يصرخ: “ضبو الشناتي” ليقول أحدهم: “والله مضبوبين” فيردد البعض: “سفّرني ع أيا بلد واتركني وانساني”.
رغم كل النزاعات والمشاجرات أمام محطات البنزين، وفي الشوارع، خصوصاً تلك التي لا تعمل إشارات المرور فيها، وفي تلك الأزقة المعتمة الممتلئة بدخان سجائر الأطفال، يبقى هناك مودة وألفة….أحياناً، في أرجاء هذا الوطن، مع أنّ الوجوه تغيرت والذكريات تلاشت وتبدلت، لكن تبقى تحس بأنّ كل هذه القسوة تحاول فاشلة أن تطغى على حنية شآم، فإن أمعنت النظر سترى اللهفة والمبادرة، رغم الظروف تبقى تسمع عبارة: “خليا علينا” وتفرح من أعماق قلبك عندما يقال لك بعد الدفع: “معوّضين”، نعم فالسوريون هم أسياد الكلام المعسول، وإن كانوا ينثرونه هباءً.
تسمع الشعب هناك يشكو ويبكي مع أنه يضحك ويعيش، بالمناسبة هذا الفصام مُعدٍ، أصبت به خلال زيارتي، حتى صرت منهم ومثلهم لا أعرف نفسي، ولا أفهم ما يدور في رأسي، ولا ألوم دماغي، فهذا حقه، لأني شاهدت الأرصفة مزدحمة بالفقراء أكثر من أي وقت مضى، مع أنّ المقاهي تضج بالمكياج والماركات، في حين يملأ المدينة صخبٌ غريب، خليط من السكرات والصلوات، والحفلات ممزوجاً ببكاء الآباء.. آباء خريجين، موظفين، مثقفين، لكن لا يملكون ثمن الحفاظات لأطفالهم؛ لأنها تعادل راتبهم الشهري.
الفجوة بين الطبقات مفجعة، تشاهد المعدوم الذي يخبر أنه لم يذق طعم الفاكهة منذ سنوات، وتسمع الصدق في نبرته إذ يخبرك بأنه نسي ما هي اللحمة، وعلى النقيض تشاهد من يطلب بشراهة فقط كي يتباهى. الأمر غير متوازن وحب طبقة معينة للمظاهر، الناتج عن الفراغ، جعل الولائم تمتد، في حين يقف الجياع خلف الزجاج يشاهدون ويشمون الروائح فيتخيلون الطعام. هذا ليس تشبيهاً هذا ما رأيته بعينيّ فاقتربت لأسمع أطفالاً يتحزّرون ما هذه الأصناف، فبكيت على إنسانية ماتت سمحت للنادل بأن يضربهم لأن مظهرهم أزعج المُحتفى بها.
لن أكون سلبية، فالخير ما زال موجوداً، أجمل ما حدث في كل زيارتي هو رؤيتي لعجوز منهكة دخلت المطعم لتعطي النادل خمسمائة ليرة، وهذا مبلغ لا يشتري قنينة ماء، ربما “علكة” فقط لا أكثر، وتطلب أن يعطيها ما يوازي هذا المبلغ، لكنه مدّ لها عشاء، ولكي لا يشعرها بحاجتها أخبرها أنّ الحساب تماماً بمقدار ما تملك، شيء بداخلي يؤكد لي أنّ أجره أكبر من إطعام مسكين، فهو جبّار للخواطر.
لن أكذب أو أدعي المثالية، فبعض المتسولين أزعجوني، فلطالما ظننت أنهم يدعون لنا بالخير بعد أن نعطيهم، لكنهم في وطني يسبّون ويطالبون بالمزيد ويدعون عليّ، بالنسبة لكثيرين هذا دليل على كذبهم ونصبهم وقلة أخلاقهم، لكني كنت أغضب تارة، وتارة أود فقط لو أمكنني أن أحضنهم وأخبرهم بأنّ كل شيء سيكون بخير، لكنني أخاف الكذب، هؤلاء ملوا الإيجابية الزائفة، ربما هذا ما أغضبهم عندما حاولت محاورتهم أو التقرب منهم والتعرف عليهم، أعلم أنهم لا يريدون شفقتي، أنا فقط أحببت أن أشرح لهم أنّ دفع مبلغ أكبر قد يشبعهم الليلة، لكنه لن يغير حالهم غداً. فضلت الصمت، فما حاجتهم لفلسفتي وأنا التي لا أملك حلولاً تنتشلهم من الضياع والجوع الذي يعيشون فيه.
قد تجد البهجة في صباحات دمشق، لكن ستحتاج أولاً لنفض الغبار عنها، فصوت فيروز صار مبحوحاً فيها، إياك أن تتخيل أنه ما زال يصدح صباحاً ويسلم المناوبة لصباح فخري وأم كلثوم مساءً، لأنّ الكهرباء أوْلى بأن تشغل الشعب عن الطرب والغناء، ثم إنها لا تسمح لهم بذلك، فيتم احتساء القهوة بتوتر وبانتظار امتلاء خزان الماء، وعلى صوت الجارة التي تصرخ “الله لا يوفقهن”، على من تدعي تحديداً هذا ما نفضل تجاهله. ما أجمل مشكلة انقطاع صوت فيروز وبكاء الأطفال من الحر أمام قطع الارزاق، فالعيادات تؤجل المواعيد حتى عودة الكهرباء، والمولدات ليست حلاً لأنها تحتاج المازوت المفقود، والذي قد يتواجد بأسعار تكسر الظهر، لذلك فإنّ الصالونات وحتى الطلبات في المطاعم أحياناً تؤجل، تشبه أحلام السوريين، فحياتهم، أعني حياتنا، قيد الانتظار. كل الباعة استبدلوا كلمة: “الله يفرج” التي كانت على لسانهم لسنوات بعبارات مثل: “والله تعبنا” أو “الله يخلصنا”.
استعرت من غادة السمان عنوان كتابها “يا دمشق وداعاً” لأصوّر الكتاب، مع خلفية لا تهمني وفرحة الهرب تعتريني، في حين نخرت في قلبي فكرة أني أصبحت مثل من فيك يا شآم، احترف نقدك والسخرية منك، ولا أجيد سوى هجرك. أكتب هذا اليوم فور خروجي من رحلة دامت شهراً في دمشق، لكني أعرف أنني غداً سوف أبكيها شوقاً، كما المعتاد. مزيج من الأحاسيس، صعب الوصف.
في شآم شيء يجعلني مثلنا كلنا، أحبها، حتى بتناقضاتها، أنا أصرح بأنّي مازلت أعشقها، نعم رغم كل ما كتبت، أبقى أبرر لها، لا أعرف كيف. هواؤها النظيف عليل ومسموم، أحياؤها كما الأموات، أزقة العشاق فيها تنقط كرهاً، النصب أسلوب حياة، العيون الفاتنة فيها تحمل نظرات حاقدة، جمالها خلاب، لكنه مهترئ، فالأرض الشريفة هذه محفّرة وتملؤها القمامة.
في النهاية أصبحت مثلهم أرمي الأوساخ على الأرض، “بطاحش” بالدور، أنعت الكل بكلمة “حرامي”، أبحث عن السارق الذي “شفط” خزان الماء، أنتظر رسالة البنزين، أعد ساعات زيارة الكهرباء، أفكر يومياً بشراء الطاقة الشمسية التي تضمن لي تشغيل المراوح فقط لا أكثر، أصل “البطاريات” و”الليدات” و”الانفرترات”، أبحث عن الغاز والمازوت، أستعمل الواسطات ولا أستطيع العيش بلا المحسوبيات، أراقب غلاء الأسعار و”هر” العملة، أقول عن المحتاج “شحاد ومشارط”، أتحدث بلهجة حادة، وأحاول أن آخذ ما أريد بالصراخ، والأهم أنّي أصبحت أمشي بقرب الـ “حيط” لأنني لا أريد سوى الـ “سترة”.
قد لا تفهم كل ما قرأت للتو في الفقرة السابقة، لذا أعد الكَرّة بتمعن… نعم، هذا نهج حياة.

من الآخر: نسيتُ الياسمين، مع أنّ عبقه حقاً يملأ المكان، أشعار نزار قباني حقيقة لا مبالغة فيها، أنا فقط رأيت بقاياها وآثارها. شعرت أنّ دمشق التي كان يكتبها القباني قد اغتيلت، تماماً مثل بلقيس، أريده حالاً أن يرثيها، فأنا لا أستطيع. أريد أن أخبره أنّ الدمشقيّ ما عاد يسيل منه التفاح يا أبا توفيق “هاد الدمشقي صار عايف حالو” لا يعرف طعم الفاكهة وقد نسي من راحوا؛ لأنّ كونك سورياً، يعني أن تختلط كل أحاسيسك بين الكره والعشق والغصّة والغبطة، وصولاً إلى اللاإحساس وإقتناعك بأنك لا شيء وأنك تنتمي إلى الـ “لا وطن”، هذا الفراغ هو ما شهدته، وأكثر ما آلمني كان سماع عبارات موجعة، لكن بلا أية ملامح أو تعابير، من فتاة يكبر همها عمرها بعشرات المرات، لمذكرات وخواطر كانت تكتبها في أول الأحداث، تحت القصف والحصار، عندما انتهت من قراءتها الجافة قالت بجمود: “يا الله ليكي كيف كنا”. توقفت لثوانٍ لتكمل بعدها بضحكة يغمرها الأسى: “لك كنا نحس، نكتب ونعبر ونتوجع… هلأ خلص فضينا”.
نبرة في صوت تلك الفتاة المتعب المكابر حدثتني، وأكدت لي عُقم الياسمين، وتوقّفْ عطره عن البوح بالأسرار.