ميدولاّ: الذاكرة تصنع الإنسان

تذهب مليسا ميرندا إلى أبعد من توثيق يوميّات عائلتها المؤلّفة من أخ وثلاث أخوات وأمّ مريضة. تصوّر العشرينيّة مليسا بعدستها تيّارات متردّدة من المشاعر التي يختبرها كلُّ فرد من العائلة بعد أن تفقدَ أمُّها ذاكرتها إثر إصابة خطرة في نخاعها جرّاء حادث سيّارة حصل من خمس سنوات.
تفتتح مليسا الفيلم الوثائقيّ الناطق بالإسبانيّة بشريط مسجّل لوالدتها قبل الحادث، يبيّن لنا سيّدة حادّة الطباع، فترفض الحديث إلى الكاميرا لدى سؤال مليسا عن ما تشاهده في التلفاز. ثمّ تأخذنا في رحلة لإكتشاف مكان الحادث مع إخوتها. تُدخلنا مليسا إلى المستشفى، وإلى البيت، كي نبحث عن أمّها، فلا نراها في الصورة، حتّى نحسب أنّها فارقت الحياة عند تصوير مشاهد الفيلم. لكنّها تعود وتظهر لنا كإنسان جديد، يحتاج المرافقة الدائمة.
العائلة تعيش حالًا من الشتات لأنّ الأمّ لا تتعرّف على الأولاد كونهم أولادًا أنجبتهم من رحمها، وتفقد القدرة على التعرّف على نفسها في الصور قبل الحادث بالرغم من أنّه لم يشوّه معالم وجهها. تتلاشى الصور في ذاكرة الأمّ، ولا أمل من عودتها، ولو مشوّشة. إخوة مليسا لا يذكرون تفاصيل الحادث الذي تعرّضت له والدتهم لصغر سنّهم عندها. يتصاعد الإحباط عندهم، ويبلغ ذورته عند مليسا، فتقرّر أن تنبش ألبوم الصور التي تجمعها بأمّها وتعمل على بعثرة ألوانها إلى أن تتلاشى، فتختفي والدتها من الصور. عندها فقط، تتقبّل ولادة أمّها الجديدة، بلا ذاكرة.
تختم مليسا “ميدولّا” بنفس شريط الإفتتاح، مودّعة السيّدة التي تظهر فيه. ثمّ تطرح عليها نفس الأسئلة بعد الحادث، فتكون الوالدة أكثر تصالحًا وتتجاوب مع مليسا، فنتيقّن أنّ الحادث ولّد سيّدة جديدة، تكون أمًّا للعائلة. ثمّ تذهب مليسا إلى توصيف الذاكرة على أنّها من يشكّل شخص الإنسان، وبدونها، يكون بلا هموم ولا هويّة.
مع أنّ الترجمة قد لا تُوفي النصّ الأصليّ حقّه مهما كانت دقيقة، لكنّ إحساس صوت مليسا المرافق لبعض المشاهد كفيل بتغطية تلك الثغرة للمشاهد العربيّ. مراهنتي على الفيلم كانت صائبة، فقد حاز على تنويه خاصّ من لجنة التحكيم في حفل توزيع الجوائز الختاميّ لمهرجان السرد الإبداعيّ الذي نظّمته كلّيّة محمّد بن راشد للإعلام في الجامعة الأميركيّة في دبي.
الذكريات تصنعنا، والعناد في التمسّك بها يجعلنا بائسين، والتحرّر منها يشفينا. “ميدولّا” بصوره الجميلة ومؤثّراته الصوتيّة المتباينة درس في الإنسانيّة. تنجح مليسا ميرندا في خطف دمعة من المشاهدين، فتثبت الشابّة القادمة من تشيلي، أنّ المشاعر عابرة للقارّات.
Please follow and like us: