موطن الماضي الجميل … الممر المؤدي إلى المدرسة الأحمدية في ديرة

شروق العمّاري/
لم أكن أعلم بأنني سأعود لمنزلي بعد رحلةٍ تمعنية لمنطقة ديرة، وأنا أحمل في جعبتي ذكرياتٍ لم أعشها ولم تكن لي
بالأصل. شوارعها الضيقة المزدحمة، ورائحة التوابل في أرجاء المكان، وصوت الباعة المتعالي في أرجاء الأسواق، جلب لي ذكرياتٍ ليست لي، لكني عشتها في ذلك اليوم وعشت تفاصيلها وكما لو أنها كانت لي بالفعل.
تقع ديرة في الجانب الشمالي من مدينة دبي حيث يفصل بينها وبين منطقة بردبي خور يدعى “خور دبي”. تكثر في ديرة الأسواق الشعبية والمحلات المتقاربة من بعضها البعض. من يزورها يجد فيها كل مايحتاجه من أدوات منزلية، ملابس، محلات الأعشاب، وألعاب الأطفال، وصولاً إلى المطاعم والدكاكين التي تبيع السكاكر والحلويات.
كان هدفي الأساسي من هذه الزيارة أن أسلط الضوء على أبرز المواقع الجاذبة للزوار والمتسوقين، والتي تمتلك شعبية كبيرة بين سكان مدينة دبي. ركزت في زيارتي هذه على أربعة مواقع شعبية امتدت شهرتها في منطقة ديرة ومدينة دبي بشكل عام لعشرات السنين مثل المدرسة الأحمدية، سوق التوابل، سوق الذهب، وسوق ديرة الكبير.
في البداية توجهت إلى المدرسة الأحمدية والتي درس فيها الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم في المرحلة الابتدائية من تعليمه.
تميزت المدرسة الأحمدية بدورها الريادي في نشر الفكر الثقافي والتربوي في المجتمع الإماراتي، فهي تعتبر من أقدم الصروح التعليمية في الدولة وأول مدرسة أهلية أنشئت في الإمارات. أسس المدرسة الشيخ أحمد بن دلموك عام ١٩١٢ إلّا أن المنية وافته قبل أن يستكمل بناءها، فاستكملها الابن، محمد بن أحمد بن دلموك، وأسماها “الأحمدية” تيمناً باسم والده الأول. تم تحويل المدرسة إلى متحف عام ٢٠٠٠م لتستقطب العديد من الزوار والسياح للتعرف على أشهر التلامذة الذين تتلمذوا في هذه المدرسة، ويستكشفوا أشكال الصفوف ووسائل التدريس آنذاك.
استكملنا رحلتنا وتوجهنا إلى سوق التوابل المتواجد بقرب السوق الكبير في ديرة. يعد السوق وجهة ثقافية ومعلماً سياحياً يظهر للسياح والزوار جانب مهماً من جوانب الحياة اليومية في منطقة ديرة.
أسرتني رائحة التوابل الممتلئة بها السلال في أرجاء السوق وإقبال الناس على دكاكين التوابل بشكل كبير. وأثناء تجوالي في السوق أوقفني أحد الباعة ليقنعني بشراء التوابل من عنده، فأخذتها فرصة للتعرف على أنواع التوابل وفرصة كذلك لعيش تجربة المساومة والتفاوض على السعر. سألت “أصغر” وهو اسم البائع، عن أنواع التوابل المتواجدة لديه وإقبال السياح على دكانه فقال: “توجد لدينا أنواع ختلفة من التوابل المجلوبة من الهند والصين والسعودية والتي تختلف في استخداماتها بحسب نوع الطبخة المراد تحضيرها”. وأكمل قائلاً: “يأتي لدكاني عددٌ كبير من السياح يومياً لشراء التوابل وأخذ الصور بجانب السلال، إلّا أن السياح الخليجيين هم الغالبية العظمى من أعداد السياح القادمين للمحل”.
زيارة واحدة لسوق التوابل لن تفي بالغرض، بل يجب على الشخص زيارة السوق مراراً وتكراراً ليكتشف أسرار السوق وأزقته الضيقة الممتلئة بأنواع التوابل المختلفة.
أكملنا رحلتنا الاستكشافية وتوجهنا إلى سوق الذهب القديم المشهور في هذه المنطقة منذ سنين طويلة. يأتي الزوّار من مختلف أنحاء العالم لهذا السوق ليشهدوا التصاميم الفاخرة والفريدة والتي تتميز عن غيرها من التصاميم في الأسواق الأخرى في المدينة. فبمجرد الدخول إلى قلب السوق، تُخطف الأبصار والقلوب بألوان الذهب البراقة، وتُشد الأنظار إلى التصاميم المدهشة والمميزة. فمن يبحث عن الذهب الأبيض سيجده بتشكيلاته المختلفة، ومن يبحث عن الذهب الأصفر سيتفاجأ بتصاميمه الجميلة والمتفردة. يضم السوق أكثر من ٣٥٠ متجر متنوع يبيع مشغولات الذهب والفضة والتحف الكلاسيكية التي ترضي جميع الأذواق.
واصلنا المسير في شوارع ديرة إلى أن وصلنا إلى سوق ديرة الكبير. يتعبر هذا السوق تجمعاً لعدة أسواق تفصلها ممرات ضيقة وقصيرة. يجد المتسوق كل ما يريده في هذا السوق. إذ يوجد بداخله سوق صغير يدعى بسوق “المطارح”، يعنى ببيع الأقمشة والملابس الخفيفة التي تناسب مختلف الجنسيات في المدينة. وكذلك يوجد سوق يدعى بسوق “المواعين” ومن اسمه، فإنه يعنى ببيع الأدوات المنزلية والمطبخية، أما سوق “العرصة” فإنه يعنى ببيع المشغولات اليدوية كالسجاد وأغطية الطاولات.
أنهيت رحلتي هذه وفي ذهني صور ولحظات جميلة لن أستطيع محيها من ذاكرتي على الإطلاق. فعندما خرجت من ديرة شعرت بأنني قد خرحت من ماضي أجدادي الجميل ورجعت إلى حاضري المليء بالتعقيدات والرتم السريع الذي يفتقد لبساطة وتواضع ماضي آبائي القديم.
تمنيت لو أنني قضيت وقتاً أطولاً في ديرة لأزور المنازل القديمة وسوق السمك هناك، ومرسى البواخر كذلك، وأشتري اللبان والبخور والمحار، لاختبر حظي وأرى إن كنت سأحصل على لؤلؤة من محارتي الصغيرة. لكن غروب الشمس أعلن عن وجوب رحيلي وتوديعي لديرة، على أمل أن أزورها مرةً أخرى وأصنع معها ذكرياتٍ جديدة.