مكتبة خيالية بلا حدود اسمها الشارقة

في قلب الشارقة، ينبض معرض الشارقة الدولي للكتاب بروح الكلمة المكتوبة؛ هذا الحدث الذي يجمع بين عبق الماضي وابتكارات الحاضر، يشكل بوتقةً ثقافية تلهم كل من يزوره. حين تتجول بين أروقة هذا المعرض، ستجد نفسك محاطاً بأكثر من 2520 ناشراً من 112 دولة، وكأنك تُبحر في محيط من العناوين والأفكار؛ عناوين وأفكارٌ تحمل في طياتها تنوع الحضارات الإنسانية. الشعار الذي يحمله هذا المعرض، “هكذا نبدأ”، ينساب مع كل حرف يملأ المكان، ويرشد الزائر في رحلة لاكتشاف أسرار جديدة في عالم القراءة.

شعار معرض الشارقة الدولي “هكذا نبدأ”

في واحدة من الجلسات المميزة بعنوان “الحياة في الكتب”، يقف الكاتب السوداني حمور زيادة ليحكي قصته مع المكتبات، فكتب طفولته البسيطة تحولت مع الزمن إلى مكتبة عامرة بالعناوين التي تعكس نضوج أفكاره، فقد كانت الكتب بالنسبة له ملاذاً يعيد تشكيل فكره ورؤيته. وعلى المنصة نفسها، يشارك الكاتب المغربي محمد آيت حنا رحلته الأدبية التي تجمع بين الثقافات المختلفة، حيث يجد في إعادة قراءة الكتب متعة أعمق من مجرد استهلاك العناوين، فكل قراءة تمنحه فهماً جديداً وعلاقات تربط بين تلك الثقافات المتنوعة في حياته.

جلسة “الحياة في الكتب” في معرض الشارقة الدولي للكتاب

وللأدب جانب آخر يتجلى في عيون الأطفال، حيث تتحدث الكاتبة الأردنية لينا أبو سمحة عن شغفها بأدب الأطفال، وقدرتها على التعبير عن عوالم الطفولة البريئة التي تربطها بشخصيتها كأم. تعكس كتب الأطفال بالنسبة لها شغفاً يتجاوز الكلمات، فكل قصة تحمل أملاً في عالم خيالي بعيد عن حدود الحياة اليومية.

جلسة جذور وأجنحة: زرع الهوية من خلال كتب الأطفال (Sharjah24)

وعند الحديث عن الحكايات الشعبية، تتصاعد أهمية هذه القصص كجزء من إرث ثقافي يمثل عمقاً فريداً للهوية، كما تقول الدكتورة عائشة بالغيص التي ترى أن الحكايات الشعبية ليست مجرد قصص تُروى للصغار، بل هي “إرث نشأنا عليه، ترسخ القيم والعادات”. ولكنها تشير إلى ضرورة التدخل بحذر في بعض المفاهيم العتيقة التي قد تحمل ما لا يتناسب مع الحاضر، مؤكدةً أن هذا التعديل لا يمس جوهر الحكاية، بل يعيد صياغتها لتبقى محتفظةً بخصوصيتها الثقافية.

الدكتورة عائشة بالغيص في جلسة “إعادة إنتاج الحكاية الشعبية بين الإبداع والتشويه”

معرض الشارقة لا يكتفي بجذب القراء إلى الكتب فحسب، بل يدعوهم إلى عالم التشويق والإثارة. في جلسةٍ بعنوان “فن صياغة روايات التشويق”، يُعرض سحر السطور الأولى، تلك التي تُمسك بالقارئ ليظل متلهفاً حتى النهاية، إذ يصف الروائي أمير عاطف حرصه على صياغة افتتاحيات رواياته بعناية فائقة، بينما تركز الكاتبة كاثلين أنتريم على رسم حبكة تثير فضول القارئ لمحاولة فك شفرة الأحداث بنفسه، مما يضفي على النص عمقاً يلامس شغف البحث عن المجهول.

ملتقى مهرجان الإثارة والتشويق

في هذه الدورة، يحتفي المعرض بالكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي كشخصية العام، كما يحتفي بالمغرب كضيف شرف، فتنبض أروقة المعرض بالثقافة المغربية، ممثلةً في رواق يزخر بالمخطوطات والكتب، حيث يمكن للزوار استكشاف تراث غني عبر الندوات والعروض الفنية والأدبية التي تبرز جمال المغرب وتنوعه. ويعكس هذا الاحتفاء انفتاح الشارقة على الثقافات المختلفة وإبراز عمق الروابط بين الشرق والغرب، كجسر يصل الماضي بالحاضر.

الجناح المغربي في معرض الشارقة الدولي للكتاب

أما عشاق الشعر والموسيقى، فقد أبدع المعرض في تنظيم فعاليات “المقهى الثقافي”، التي تمتزج فيها القصائد مع الألحان، لتشكل “أمسية شعرية” بأصوات شعراء من كل أنحاء العالم. كلمات تُسمع بكل لغات العالم، من الكندية روبي كور، والمصري هشام الجخ، لتصبح القصيدة عالمية تتجاوز الحدود اللغوية.

ثم يأتي المسك الختام في جناح الطهي، حيث يقف الطهاة من كل بقاع الأرض ليقدموا أسرار مطابخهم عبر عروض الطهي الحي، فتتحول الوصفات إلى قصصٍ نابضة بالحياة، تشهد كيف أن الكتب أيضاً تأخذ أحياناً شكل طبق يعبر عن ثقافة وطابع بلد معين. من الشيف المغربية علياء القاسمي، إلى الشيف البريطانية روبي بوجال، يقدمون كتبهم الطهوية التي تروي قصصاً لا تُنسى، لتجمع بين متعة القراءة ولذة التذوق.

جناح الطهي في معرض الشارقة الدولي للكتاب

المعرض، الذي افتتح دورته الثالثة والأربعين حاكم الشارقة سمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، ليس مجرد حدث سنوي؛ بل هو رحلة في قلب المعرفة، يربطنا بما مضى ويكشف لنا عن الآتي، ليبقى مرآةً تعكس تلاقح الأفكار وتنوعها، وكأنه عالم قائم بذاته، عالمٌ لا نهاية له في مكتبة خيالية تمتد بلا حدود، اسمها الشارقة.

Please follow and like us:

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial
EMAIL
Facebook
INSTAGRAM