مصدر.. التي تحررت من عبودية النفط!

وسط الصحاري الممّتدة على مرمى النظر، وفوق رمال ذهبية حارقة، أزهرت مدينة “مصدر”، كنبتة متمرّدة وطموحة، تتحدّى ظروف المكان والزمان، وتخلق من شحّها ثروة، ومن عزلتها جسور تواصل وتلاقح للأفكار والخبرات، التي أتتها من كل مكان، مأخوذة بإرادتها الفذّة، ونظرتها الثاقبة النّهمة للمستقبل، لتجعل من نفسها مدينة فريدة من نوعها بمساحة ٦ كيلو مترات خالية من الكربون، وتجمع ملّهم للعقول والكفاءات المحلية والعالمية، التي اتّحدت عازمة على صنع غدٍ أفضل، يحيا على طاقات متجددة ونظيفة، وإيجاد حلول جذرية للقضايا الملحّة، التي تؤثر في حياة الإنسان بشكل عام، والمتمثلة في أمن الطاقة والمياه، والتغير المناخي.
هذا ما اسّتشعرته وأنا أراقب المدينة الواقعة شرق العاصمة أبوظبي عن كثب، ضمن زيارة تعريفية قدمت لنا ولمجموعة من الطلاب القادمين من جامعة هارفرد.
تلك المساحات التي ولدت داخل مجتمع صحراوي عاش لعقود من الزمن، بطاقة قوامها الشمس والماء والنخل والإبل، في صورة بدائية مدهشة، ومتصالحة مع مصادر الطبيعة وعوامل الجغرافيا، بقيادة الأب الروحي لدولة الإمارات الشيخ زايد رحمه الله، الذي عرفه الناس بسيطاً، محباً للصحراء وكل ما تمنحه من سكينة وتناغم روحيّ مع الله والطبيعة.
من هنا أطلق أبناءه بقيادة الشيخ خليفة رئيس دولة الإمارات هذه المبادرة، تقودها شركة ابوظبي لطاقة المستقبل (مصدر) حيث تحظى بإيمان ودعم حكومي كبير، لدورها الحيوي في دفع أبوظبي للريادة والتفوق في مجال الطاقة المتجددة والتنمية المستدامة.
فيقول رئيس مجلس إدارة الشركة: “نحن نفكر بآخر باخرة نفط ستخرج من أراضينا، وقتها نريد للأجيال القادمة أن تدعو لنا ولا تدعو علينا”.
مصدر لا تضم حقولاً شمسية ومرواح ضخمة فحسب، بل معهداً للدراسات العليا بدأ بـ ٩٢ طالباً قبل حوالي ثمانِ سنوات، وها هو اليوم يحتضن ٧٠٠ طالب، في برامج مكثفة ذات صلة بالطاقة وعلوم المستقبل، تشرف عليها وتقيّمها جامعة ماساتشوستس للتقنية (ام آي تي) إحدى أعرق وأهم الجامعات العلمية في العالم بأكثر من ٦٠ فائز بجائزة نوبل، وباقة من أهم الاختراعات العلمية التي خرجت من رحمها، كالويب، والتلفون الفضائي أو ما يعرف اليوم “بالجوال”، والبريد الالكتروني “الايميل”، وغيرها من الاختراعات الثورية في حقول التكنولوجيا، كل تلك الإمكانيات والخبرات استقطبت وسخّرت لبناء منصة علمية واعدة.
شراكات استراتيجية متعددة سعت شركة مصدر لعقدها، مع مؤسسات متلهفة للاستثمار في علوم المستقبل، كشركة سيمينز الألمانية، وهي أكبر الشركات الأوروبية في مجال الهندسة الكهربائية والالكترونية الحديثة، والتي اتخذت لها مقراً جديدا ًفي قلب المدينة، لتقدم من خلاله منحاً مادية سخية لمشاريع البحث العلمي، وتحويل بذور الأفكار النيّرة إلى غرس حضاري وعلمي يخدم مسيرة العلم والإنسان.
فلكم أن تتخيلوا هذه البيئة العلمية الخلاقة التي بنتها، وسعت لتوفيرها لطلابها وطاقم تدريسها، عبر مبانيها العصرية الملهمة، ومختبراتها العلمية المتقدمة، ومنحها المادية السخيّة، كل ذلك يعطيك رسالة واضحة مفادها أن الإدارة ومن خلفها حكومة أبوظبي تؤمن بجيش المستقبل في مصدر، وتثمن جهوده، وتستثمر أحلامه في بنك التقدم الحضاري كودائع بشرية لا تعرف الخسارة.
مصدر ليست مشروعاً تجارياً، ولا استعراضا ً حضارياً، بل هي نتاج جهد وعرق، واتفاقيات أخذت وقتها في البحث والإقناع، وأموال ذهبت في مكانها الصحيح، لتصنع صرحاً لا يتردد بفتح يديه للمستقبل.. ليبقى السؤال ماذا قدمت الدول الخليجية الأخرى التي ابتليت “بلعنة” النفط وما خلفه من تخمة وكسل؟ ومتى يا ترى تستفيق من غيبوبتها لخلق موارد متجددّة لا تنضب، ولا تخضع لمزاجية السوق وتقلبات اقتصاد المستهلكين؟ وهل تقتبس من تجربة ابوظبي في حفر بئر خير تفور بالعزيمة والوعود، لتعلننا أمة بقدر مختلف.
Please follow and like us: