(لطالما كانت الغربة (الشيء الغريب
لطالما كانت الغربة “الشيء الغريب” بالنسبة لي. ففي صغري، كانت تعني العيش في الخارج طيلة حياتي، أتنقل ما بين دولة أجنبية أو عربية إلى الأخرى، دون أن أعرف جيداً ما يدور حولي، سوى أنّي ولدتُ في عمّان، ويجمعُ بيني وبينها بضعة ذكريات جميلة، وثمة مكان بعيد نصل إليه أنا وعائلتي عندما نذهبُ من عمّان. حيث نصلُ إلى بلدةٍ أخرى، في مدينةٍ صغيرة بحجمِ قرية، يملؤها الحزنُ والسعادة والنضال في آنٍ.
وربما هذه هي الغربة بالفعل، ولكن لا أعرف لما تدفعني لوصف فلسطين وقلقيلية كقصةِ كان يا مكان في قديم الزمان. فلن أكذب، أنّي لم أعرف عن فلسطين كثيراً، ويأخذ مني جهداً مضنياً لأعرف عنها جيداً خلال زياراتي القليلة جداً، والتي تقتصر بما يروى من عائلتي وأقاربي، ومما أقرأه من كتب.
وإن حاولتُ قدر ما استطعت ألّا أتشاءم بسبب قلة معرفتي بوطني، أتذكّر أنّ أول ما قرأتهُ في حياتي عمّا يتعلّقُ بفلسطين كان كارثياً، ولا يُساهمُ أبداً بالتفاؤل. كانت قصّةٌ للأطفال تزعمُ بأنّ سكان إسرائيل عاشوا في سلام، لحين أن جاء فلسطينيون “إرهابيون” غيروا مجرى الحياة وقرروا احتلال هذه الأراضي وقمع جميع من فيها.
وعلى الرغم من أنّي لم أفهم شيئاً نظراً إلى صغر سني يومها، إلّا أنّ ذلك قد يشرحُ لما كانت أمّي تأتي باستمرار إلى مدرستي، حيث حصلتُ على القصّة من المعلمين هناك، وتدخلُ في جدالات لانهائية مع الإدارة، نظراً إلى أمورٍ أخرى أثاروا الغضب فيها على وجه العموم.
أن أكون مغتربةً، رغم المتعة والانفتاح، جلبت الكثير من علامات الاستفهام، والمواجهات، والاشتياق. بيد أنّها جلبت أيضاً راحةً نفسيةً، عندما كبرتُ، وكنتُ أفكّر، أنّ فلسطين حتماً ما تزال متفائلة لوجود الدول العربيّة الشقيقة بجانبها.
ومع ذلك، أستدرك بأنّي لم أصبح واعيةً بما فيه الكفاية بعد، فلعلّ الغربة قلبت حياتي رأساً على عقب أيضاً، عند رؤية، أنّ فلسطين ما تزال تعيسة. فإنّي أنصدمُ من أفعال بعض هذه الدول عند قراءة الواقع بشكلٍ جيد عبر الكتب. وفي بعض الأحيان، وجودها وعدم وجودها هو الشيء ذاته! لعلّه يجلب الكآبة والخيبة بشكلٍ أكبر… فقلبي مع شعبي، وأتمنى لو تتحوّل فلسطين إلى إنسانٍ أعانقهُ بحرارةٍ.
“أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألّا يحدثُ ذلك كله” (غسان كنفاني)
أتذكّرُ اليوم الذي سافرتُ فيه إلى الضفة الغربيّة في 2019 بعد غيابي عنها لثمانية أعوام. مع أنّها لم تكن المرة الأولى، إلّا أنّي لا أتذكّر جيداً سواها. “أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألّا يحدث ذلك كله!” (غسان كنفاني).
لعلّ الوطن بالنسبة لي هو أن يكون قريباً من قلبي، حتّى وإن لم أره كثيراً. ولكن جملة غسّان كنفاني هذه كانت تضعني تحت الأمر الواقع عند قراءتها، بأن أتساءل دوماً عن حال فلسطين، وأرى بأنّها تقعُ تحت القصف والقمع المستمر منذ الأزل، وأتساءل أيضاً، لما يحدثُ في وطني كلّ هذا، وكأنّ العذاب لا يكفي، ليخرج أيضاً بصورةٍ أخرى تزعمُ بأنّ شعبه هو المجرم.
ولا أستطيعُ إنكار الأزمة العاطفية التي تعرّضتُ لها أثناء سفري عبر جسر الملك حسين (يربطُ بين حدود الضِفة الغربيّة والأردن)، على الرغم من أنّي توقعتُ بأن أكون سعيدةً ومشتاقةً لقلقيلية. ربما لم تكن أطول ساعات من حياتي قضيتها على الجسر، كما يحدثُ عادةً مع أقاربي، ولكن كانت الأكثر صدمةً، أتعجّب، أيُ إنسانيةٍ تسمحُ لكرامةِ مواطنٍ أن تتدمر، فقط لأنّه أراد المجيء إلى أرضه.
ولعلّي ما زلتُ لا أستطيعُ التخلّص من الأزمة العاطفية حتّى اليوم؛ كنتُ قد تعرّضت للكثير من المضايقات، وللمشاعر القاتلة والمليئة باليأس الشديد. فوقاحة الإسرائيليون لا تهجر المكان، ورغم الأرواح المتفائلة إلّا أنّ الحربَ لا تغيبُ عن ألسنة الشعب، ومنهم عائلة والديّ. فالتفكير بحياة مرءٍ يعيشُ في مكانٍ يقعُ تحت اضطهادٍ استمر لأكثر من سبعين عاماً، يؤرقني ليلاً، وخصوصاً أنّ الظروف دفعتنا للعودةِ لعمّان بعد يومٍ واحدٍ فقط، لأنّ السلطات كانت ستُغلقُ الجسر بسبب الانتخابات الإسرائيلية، مما دفع مشاعري للتضاربِ بشكلٍ أكبر مما كانت عليه أساساً.
تارةً كنتُ مرتاحةً للرحيلِ لأنّي أردتُ كتم مشاعري الفيّاضة وأحاول نسيان ما واجهته، وتارةً أخرى لم أكن سعيدةً أبداً، وبات الاكتئاب لا يريدُ التخلّي عنّي، مِن اليأسِ القاتل، وعدم تحقق أماني الوصول إلى مناطق تَبعدُ أكثر من قلقيلية وفي الضِفة الغربيّة عموماً، الذي كنتُ أريدهُ بشدّة، ولطالما أردتهُ، وما زلتُ أريد. لعلَّ ثلاث مرات والمرةُ الثالثة بالذات لم تكن مشبعة بما فيه الكفاية لإمضاء وقتٍ على أرض لم تتسنى لي الفرصة للتعرّف عليها، ويصعب عليّ ذلك أيضاً.
تتطلبُ الإجراءات بأن يحصل فلسطينيون مغتربون، حتّى مالكوّ لم الشمل، على تصريحِ “فيزا” لدخولِ القدس، والذي يخضعُ للحصولِ أيضاً على ردٍ إمّا بالموافقة أو الرفض من الطرف الإسرائيلي، قد يتطلبُ من الوقت للحصول عليها فترة طويلة، وربما يأتينا الرفض بعد هذا الانتظار الطويل! أهذا ما يسمّى بالعدالة والإنسانية؟ أن يُجبر المرء على عيش ظروف قاهرة، فقط للحصول على إذن الدخول إلى أرضه؟ فمن المضحكِ بالنسبة لي، أن أعيشَ في الغربة، وأن أسافرَ إلى أماكنٍ كثيرة، لا تعرفني، ولا أعرفها، ولكن الوصول إليها كان أسهل من الوصول إلى أرضي. شرُ البلية ما يُضحك!
وجودنا رغم التهجير هي الثورة بحد ذاتها، يا سيدي
ما زالت مشاعري تتصارعُ حتّى اليوم، وخصوصاً بعد مضي أربعِ سنوات. ولا أعرفُ إن كانت زياراتي ستبقى محدودةً هكذا نظراً إلى أنّ معنوياتي تنطفئُ مراراً، وأن عائلتي وأقرابي لا يتحمسون فوراً الذهاب “للضفة”، كما نسميها دوماً، وخصوصاً أنّ السفر إلى هناك في الماضي، بحسب ما كانت تقوله لي أمّي، كان أصعب بكثير ولم أرى بأنّه يبشر بوجود أي خلية من الإنسانية.
ومع ذلك، أعرفُ بأنّها، رغم الضيق، تنسى معاناتها عندما تصلُ هناك، وتتشبكُ مع ذكريات الماضي والحاضر، وتحتضنُ أرض القدس في لحظةٍ من الشوقِ. فرغم الإنسانية الميتة، تبقى الأرواح مناضلة. لعلّ للوطنِ ذكريات باقية وذكريات تولد من جديد.
هو المكان الذي تبقى تربته منعشة عند عبور شوارعه، وتبقى جذور أشجاره متماسكة مهما عصفت الريح. هو المكان الذي تبقى الأرواح سعيدة رغم إرهاقها ومتفائلة رغم اشمئزازها، بين أزقة المحلات وروائح الزعتر، يبقى الكيان حياً وقوياً، ووجوده هنا رغم التهجير هو الثورة بحد ذاتها. نعيشُ الحياة وننشرُ الثقافة، والهوية، وكلّ ما هو ملكنا.
وأعرفُ أيضاً، أنّك، يا سيدي، الذي أمضيتَ فترة طويلة وأنت تحدّق فيّ أثناء التشييك على أوراقي، وكأنّك لم ترى آدمياً فلسطينياً من قبل، (كيف لك ألّا ترى من قمعت شعبه في بيته؟) بأنّك سترانا كثيراً بعد. لا أعرفُ وضع تلك النظرات التي أكّدت لي بأنّك روبوتاً لا يأبه لشيء، مشمئزاً لرؤية كمّ هائلٍ من الفلسطينيين غيري ينتظرون العبور، لعلّك بائسٌ بأنّ أصحابك لم يستطيعوا التخلص منهم بعد.
ولكن لعلّ للهُوية معجزةٌ نادرة يا سيدي. أن يتعرّض المرء لكلّ أنواع القمع النفسي، والجسدي، والمعنوي ويتعايش مع أشكالك، ويتحمّل في الوقت ذاته ساعات طويلة للعبور والوصول إلى وطنه. إنّه الاشتياق… نشتاق لزيارةِ الوطن رغم الرغبةِ بالهروب منه في الوقت ذاته، رغم الأزمات العاطفية المدمّرة. لنا هُوية وكيان، ومكان يجمعُ ما بين الإثنين. فكيف لك أن تتخلص منّا؟