قصي حسين يهزم اليأس: من الحرب يولد الصمود

كل مخلوق على وجه الأرض خلق كي يضع بصمته الخاصة في المجتمع، إلا أنه بين الحين والآخرلا بد من تلقي الصفعات على مدار الأزمنة، قبل الوصول إلى الهدف، وتحقيق الشغف في الحياة، بينما هذه المرة كانت الصفعة من خلال الحرب، وهذا ما كشفته الحلقة النقاشية التي نظمتها كلية محمد بن راشد للإعلام في الجامعة الأمريكية بدبي.
الحلقة النقاشية جرت في 16/6/2021 من خلال جلسة مرئية عن بعد عبر تطبيق زووم بالتعاون مع منظمة “أطباء بلا حدود” جرى خلالها عرض الفلم الوثائقي “أفتح عينيّ” الذي يروي قصة حقيقية لشاب طموح ومثابر اسمه قصي حسين من العراق، كان قد واجه العديد من الصعاب والأوجاع بسبب ظروف الحرب في العراق، لكنّ ذلك ولّد لدى قصي الصمود وهزيمة اليأس.
قصي حسين تعرض لحادث أليم قد يمر به الآلاف من البشر الذين يواجهون الحروب أو الاحتلال مثل فلسطين وغيرها من الدول، فما بين 2006 و2007 حدثت الواقعة المؤلمة التي قلبت حياة قصي رأساً على عقب، حين تعرض لانفجار قد جعله يظن نفسه بأنه فارق الحياة، إلا المشيئة الإلهية قضت أن يبقى على قيد الحياة لتكون الحادثة بمثابة “معجزة إلهية”.
الأمر لم ينته والقصة لم تتوقف هنا، بل بعد ذلك كانت النتائج متوقعة بعض الشيء، فبسبب ما جرى فقد قصي بصره، وتغيرت ملامحه متأثراً بالانفجار، ولو نظرنا لأحوال فلسطين المحتلة لرأينا قصصاً متشابهة تماماً وربما تكون أكثر ألماً، فالحروب لا ترحم ولا تُشفق على البشر ولا تميز بين الظالم والمظلوم، أو تفرق بين السن والدين واللون، فالجميع قد يتعرضون للضرر والموت والاستشهاد في أية لحظة.
كان الشاب قصي حسين يشاهد التلفاز ورأى بالصدفة أنّ هناك أطباء عظماء وخبراء بالجراحة في الأردن وتحديداً العاصمة عمان، مع وجود رقم الهاتف للتواصل، أسفل الشاشة، لأخذ المواعيد والاستفسار. لم يحالفه الحظ، آنذاك، برؤية رقم الهاتف بوضوح، لذا قرر أن يهتف لأخيه طالباً النجدة واللحاق به قبل فوات الأون، وبالفعل تم الأمر على اكمل وجه.
جاءت الموافقة على استقبال حالة قصي، وهنا كانت المعجزة الثانية في حياة قصي الذي تألم بما فيه الكفاية من الحادثة، إلا أنّ الله عز وجل قال في القرآن الكريم: (وبشر الصابرين). لذا استمر قصي على ثقته وإيمانه بالله تعالى بأنه سيشفى وبعد صبر ستأتي البشرى.
عند وصوله إلى الأردن محلقاً متمسكاً بهذا الأمل الذي لعل وعسى يغيّر من حياته ويمنحه التفاءل من جديد كي يعود إليه إحساس الشغف الذي سرقته منه الحرب.
فوجىء قصي بأنّ الطبيب الذي يدعى أشرف، أخبره بعد رؤيته لحالته بأنه أصبح أعمى بشكل كامل ولا حل لهذا الأمر. أصيب قصي ثم ذكر في الجلسة النقاشية، بالإحباط، واستمر في حالة اكتئاب عامين على التوالي، بسبب حالته ومعرفته بشعور عائلته المحزن والمؤلم، وأنه قد فقد حلمه وهدفه في الحياة، فبين وقت وآخر وصل إلى حد تمني الموت. وبالرغم من أنّ عائلته ظلوا يحاولون قدرالإمكان إخفاء دموعهم أمامه وواصلوا إعطاءه الطاقة الإيجابية، إلا أنه كان يعلم مقدار حزنهم عليه.
بالإضافة إلى ذلك، وبعد إخباره بأنه أصبح كفيفاً أسرع إلى ربه يصلي ويدعوه بكل خشوع وتضرّع ودموع صادقة طالباً منه أن يساعده، كما قال، فهو الجبار القادر على تحقيق المستحيل. وكما ذُكر في القرآن الآية الكريمة بأنه “وإذا مرضت فهو يشفين” فمعنى ذلك بأنّ الله عز وجل بيده البلاء والفرج والمرض والشفاء، وكل ما جرى لقصيّ اختبار منه تعالى.
بدأت العمليات تلو الأخرى حتى وصلت إجمالي معدلها أكثر من 35 عملية جراحية، كان الطبيب ناصر مشرفاً على عمليته وحالته على أكمل وجه محاولاً مساعدة مريضه على الشفاء العاجل. فعيون قصي لم تكن متساوية، ولم تكن في وضعها الصحيح، فقام الدكتور ناصر بحل هذه المشكلة وثم انتقل لبناء أنف جديد لقصي كي يحسن من حياته ومظهره وتفاصيل وجهه الذي تأذى من الانفجار.
بعد كل ذلك، أعرب قصي عن سعادته الغامرة من كل ما جرى له، وبالأخص في السنوات الثلاث التي عاشها في المستشفى بالأردن. شكر قصي الأطباء وقدّرهم ولم ينكر جهود الممرضين والأطباء وكل العاملين في المستشفى. وذكر قصي بأنه في كل مرة يدخل بها غرفة العمليات يبقى يضحك باستمرار ويخفف على الأطباء وفي نفسه شعور الخوف والقلق من العملية، حيث إنّ العلاقة بين المريض والطبيب، كما يقول، يتوجب أن تكون مسالمة وجيدة، ومن الأفضل خلق صداقات ومعرفة من حولنا.
قصي حسين شاب صامد ومحب للآخرين، فقد استغل رحلة العلاج النفسي الذي تم تنظيمه من قبل الأطباء، في سبيل أخذ المرضى إلى البحر الميت، حالاتهم وآلامهم وسمع رقصهم وغناءهم في الطريق، ولاحظ سعادتهم رغم وضعهم الحرج.
معنى ذلك أنّ الحياة لا تقف عند مرض أو عقبة، والسعادة بيد الإنسان وليست بيد الظروف والحروب. يقول إنه لايزال حزيناً على وضع بلده العراق وشعبه، إلا أنّ عليه الاستمرار نحو التفوق، وإبراز شغفه دوماً، ومساعدة الآخرين والمرضى.
بدا الشاب قصي، كما قال في الحلقة النقاشية، بتكوين رحلة كل أسبوع مع أصدقائه إلى أماكن مختلفة مثل: العقبة، البترا، وغيرهما، مع التقاط صور تجمعهم وإرسالها إلى عائلاتهم. لم يتوقف هذا الشاب المليء بالعزم والتصميم عن أحلامه، بل صمم أن يبدأ بتعلم لغة مختلفة وهي الإنجليزية والذهاب الى أمريكا، لكنّ أباه كان رافضاً هذا القرار خشيه عليه، إلا أنّ إصرار قصي أوصله إلى الولايات المتحدة بخير وسلامة. في ليالٍ عديدة سقطت دموعه ندماً: يا لتيني استمعت لوالدي ولم أسافر إلى أمريكا. فهو، كما أفصح، تعب وواجه التحديات والصعوبات، وحالته ليست بالهينة. في بداية حياته الجديدة كان وحيداً ولم يحتمل هذه الحياة. هنا تقدّم أحد أصدقائه وأخبره بأنه يتوجب عليه الخروج والاختلاط بالعالم، وبالفعل قام صديقه بأخذه إلى متجر التسوق، فعادت اليه الحياة.
استغرق قصي 4 شهور فقط لكي يتقن اللغة الإنجليزية، والبدء في الحديث مع الجميع بهذه اللغة بطلاقه. هدفه الوحيد مساعدة الآخرين وتغيير حياتهم للأفضل وزرع الإيجابية في نفوسهم والاستمرار في النجاح، لذا أخذ بعض الأشخاص يقومون بدعوته لحضور الندوات والاجتماعات بعد رؤيتهم لحسابه عبر اليوتيوب كي يحفّز من حوله ويخبرهم بعضاً من النصائح وحياته.
ذكر قصي بأنّ أول ندوة قدمها تواجد فيها 250 شخصاً، وكان حينها محظوظاً، قاموا بالتقاط الصور والفيديوهات وأرسلوها له، ثم قام بإرسالها إلى عائلته فبدأت العائله بالبكاء من مشهد وقوف الحضور له بعد انتهائه من خطابه، فهم فخورون بابنهم الذي كان واقفاً أمام الملأ شامخاً يتحدث وينصح الآخرين ويعزز الإيجابية فيهم.
قصي تخرج وتعلم واستمر في الحياة. ورغم كل هذه العقبات، لم يفقد الأمل ولم يخبر نفسه بأنه قليل الحيلة ولم يبالِ بحالته، بل أصر فولد الصمود والشغف من الحروب والأزمات بداخله. هكذا أشعّ الشاب قصي حسين، ووهب كل من استمع إليه، في الجلسة النقاشية التي تخللها فلم “أفتح عينيّ”، العزم والإصرار على مجابهة الصعاب، فالمستحيل ليس موجوداً إلا في قاموس العاجزين.