عطر الموت- السكرية

“السكرية” هو عنوان رواية الكاتب المصري نجيب محفوظ ضمن ثلاثية القاهرة التي حازت على جائزة نوبل للآداب لأفضل رواية عربية. بالانجليزية يصبح العنوان شارع السكر، لكن يسعني أن أعيد تسميته ليصبح “شارع المر”، الشارع المحاط و المرصع في كل ركن و حائط منه بالشوك و الألم والعلقم. السكرية بمرارتها بطشت بكل ما تملكه الحياة من معنى بين 1934 وعام 1945 لتعلق بدورها على المشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في مصر. إذا فقدت شخصا عزيزا عليك في حياتك، فكتاب السكرية سيرمي بك في نكسة وجدانية تضخ الألم في عروقك لتحيي ذكرى الألم و تنكش الجرح على العراء، الأمر الذي ينبئ بتجنّب قراءة هذا الكتاب. لكن يجدر بي أن أعترف أن قراءة الألم الذي تبدده الرواية هو متعة بحد ذاتها تجلّت في تميّز القصة، وجدانية المضمون و براعة الأسلوب الذي سردت فيه الراوية.
عند قراءة الرواية ، تجرف الأحداث القارئ إلى عالم عانق الحزن، والتشويق و الصراع ليصبح الألم جزءاً لا يتجزأ من بنيته التحتية التي أصبحت تستفيق و تنام على ذكرى الموت. الشخصيات الرئيسة الأربعة هم: كمال، رضوان، أحمد و عبد المنعم بحيث يتصدّر جيل الشباب البطولة في هذا الجزء على عكس روايتي بين القصرين وقصر الشوق. تتمحور الرواية حول القصص المختلفة و التجارب التي تعترض حياة كل من الشخصيات دون أن تكون هناك قصة واحدة يتبعها القارئ من البداية إلى النهاية. في هذه الراوية، يعلّق نجيب محفوظ على الوضع السياسي في مصر في ذلك الوقت من خلال كل من الأخويين أحمد وعبد المنعم الذين ينتميان إلى حزبين مختلفين وهما: الحزب الشيوعي و الإخوان المسلمين.
مع تصاعد الأحداث في الرواية لتصل إلى الذروة، يسطع الحزن ليترك القارئ في هالة ضبابية تخيم على نظرته للحياة. في السكرية، يعانق الموت هيكل الحياة لتحمل كل شخصية كفن حياتها و تغوص في موت الحياة. فعلى سبيل المثال، صادق الموت كمال بعد قصة حبه الفاشلة مع عايدة، ما جعله يطلق الحياة بامتناعه عن الزواج وشكه المستمر في معنى الحياة. عائشة، أخت كمال، رحبت بالموت وهي تودع بصيص أملها في الحياة بعد أن حلقت ابنتها نعيمة إلى السماء، كما حلق في السابق زوجها و ابنيها. في السكرية، تمكّن نجيب محفوظ من رسم اليأس وبث الاكتئاب في أروقة السكرية كما في نفس القارئ من خلال استخدام تعبيرات بالغة في الروعة و الدقة تصرخ بالألم. فعلى الرغم من مواجهة أبطال السكرية مشهد الموت بشكل مستمر، إلا أن غصته ما زالت تفتك بأرواحهم كحال كمال عندما أخبر بدنو أجل والدته. الأمر الذي برز في قول محفوظ :”ألم يألف الموت بعد، بلى و لديه من العمر ما يقيه الجزع.”
في الراوية، برع أسلوب نجيب محفوظ في تصوير المشاهد للقارئ بحيث يتلمس الأخير الحدث و ينخرط في تفاصيله. وعدا عن كون أسلوب الرواية وصفيا مغطسا بالحزن، تمكن محفوظ من حبس أنفس القارئ في كل دقيقة ليحتفل بعلاقة قوية بناها محفوظ بين الأول و الشخصيات. ففي اللحظات الأخيرة التي غادرت فيها براءة نعيمة الحياة، نجح محفوظ في كسر قلب القارئ وبناء غيمة سوداء على روحه ليبكي هو الآخر على موت نعيمة بوصف محفوظ :”كانت نعيمة مغمضة العينين، صدرها يعلو و ينخفض كأنما أفلت زمامه من بقية الجسد الساكن، أما الوجه فأبيض باهت كالموت.” و بطريقة غير مباشرة، أعلن محفوظ موت نعيمة لتطير في السماء خارج جدارن السكرية بقوله: “ودخلوا جميعا، لم تعد حجرة ولادة و إلا ما دخلوا.”
وعلى ضفاف أوراق السكرية، استخدم نجيب محفوظ لغة بليغة وتعبيرات جمالية غير بسيطة ربما يصعب على القارئ استيعابها من القراءة الأولى. لكن، لم يزهق هذا الأسلوب روح الوضوح في تعبير و كلمات محفوظ المتلألئة بل عكس تعقيد الوضع المصري في مختلف نواحيه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وفي خضم تميز القصة، لم يتسم تصميم الصفحات بالجاذبية حيث تعج الصفحات الصفراء بفقرات طويلة غيرمقسمة، ما قد يتعب عين القارئ. تصميم الصفحة المزدحم بالنص لم يعطِ للقارئ فرصة لأخذ قسط من الراحة في ظل الصفعات التي يتلقاها واحدة تلو الأخرى عند الانتقال من صفحة لأخرى تذرف دموع ألم الخسارة والضياع. هذا و يؤخذ على الراوية نظرتها التشاؤمية للحياة التي تحطم أمل القارئ وهو ينتقل من نكسة إلى أخرى بأن يظفر بمستقبل مشرق و حياة مسالمة.
ليست بيضاء ولا سوداء، بل رمادية كما أرادها أن تكون محفوظ كنهاية لم تجد حلا لاستمرار الأزمات بقوله” كان المغيب يقطر سمرة هادئة فمضيا جنبا إلى جنب نحو البيت”. وفق محفوظ بأن يجعل نهاية الراوية مفتوحة ليترك بذلك الفسحة للقارئ ليغرد بأفكاره و مشاعره لحن النهاية التي لم تعترف فيها السكرية. عائلة أحمد عبد الجواد الكبيرة اضمحلت في آخر مشاهد الراوية ليخلد أحمد وعائشة كشهداء على الموت، ليتوج ألم الحياة حياتهما. بهذه النهاية، ستتجرع عائشة كما كمال ألم الموت مادام النفس ما زال حيا في أجسامها ليعيشا ذلك الألم أكثر من الأموات أنفسهم. إذن، الموت هو نعمة يحظى بها الأموات فقط خلف قضبان السكرية و ليس أحياؤها الأموات في تجاعيد الحياة. وكما تنثر السكرية على القارئ عدة أسئلة حول قيمة الحياة، أضحى القارئ يشتم شذى الموت من عطره الموجود في جعبة كل واحد منا.
Please follow and like us: