حمّى الحرب: فيلم فهرنهايت 9/11

تتجلّى عبقريّة مايكل مور بتغليفه لمادّة ساخنة بقالب ساخر. يقدّم لنا المخرج مور جورج بوش الإبن بإطار نقديّ لاذع، ويتدرّج من خلفيّة علاقاته بتنظيم القاعدة وحركة طالبان قبل أن يصبح رئيسًا للولايات المتّحدة الأميركيّة، ليشهد عهده على أضخم حدث هزّ بلاده وقلب المعايير الدوليّة؛ أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2011. بعدها، يعلن بوش الحرب على الإرهاب ومعقله العراق، ويُجرّ العالم إلى حرب ضروس، جبهتاها عسكريّة وإعلاميّة.

لا يدخل مور في تفاصيل الحرب، ولا يغوص في أسبابها، بل يحارب مفهومها، دارسًا التجاذب ما بين ثقافة “نحن نصنع الحريّة، وتصديرها واجبنا”، وبين “نقضي على كلّ ما يهدّدنا”، التي تخدم مصالح بوش الشخصيّة.
فحرب بوش “على الإرهاب” تحوّلت لعبة، طرفها الوحيد بوش نفسه، وعليه فلا يمكن أن يخرج منها خاسرًا. ينقّب مور عندها عن الفئة المستضعفة التي تسخّر وقودًا للحرب بدون أن تكون الحرب قضيّتها.

الهروب من المشاهد القاسية لم يكن جائزًا، وإن حاول مور ترقيعها، وتضميد بعض من تفاصيلها. هذه الوقائع، وإن كانت موجّهة بالدرجة الأولى للأميركيّين، لا يمكن إلّا أن تمسّ كلّ من يشاهد الفيلم، ولا يمكن التغاضي عن قوّة الإعلام في تجييش الأميركيّين لإقناعهم بأنّ الحرب هي معبر الحريّة الوحيد والأنجع لإستئصال الخلايا الإرهابيّة.

مشاهدتي الأولى للفيلم بعد مضيّ أكثر من عشرة سنوات على إصداره، تدفعني على التفكير، هل تغيّرت السياسية الأميركيّة بعد بوش؟ أم أنّها وجدت قناعًا “ملوّنًا” تخفي فيه قذارة ما يدار بإسم الحريّة؟ اليوم، العراقيّون يعانون، ورقعة المعاناة تتّسع، الأسماء تغيّرت، واللعبة واحدة، الحرب، الحرب القذرة.

لم يصنع مور “فهرنهايت” ليَسرُد مجريات غزو العراق، ولم يشأ تأريخ الأحداث في السنوات الأربعة التي تناولها، بل أراد أن يؤطّر البارانويا والخوف والبروباغاندا الرخيصة المحيطة بالحرب، وليؤكّد لنا أنّ هذه الحرب ليست سوى حلقة من سلسلة طويلة. وكما كانت الإفتتاحيّة قويّة، أبى مور أن ينهي عمله بخاتمة أقلّ شأنًا، فاقتبس جورج أورويل بروايته “1984”؛ لا مفرّ من الحرب، هي الحقيقة الأسمى، لا ظافرًا في الحرب، الحرب مستمرّة.

Please follow and like us:

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial
EMAIL
Facebook
INSTAGRAM