الطيب صالح: عبقري الرواية العربية

عندما يشتهر كاتب في بلده فإن ذلك يدل على موهبته، ولكن عندما يشتهر عالميًا فإن ذلك يدل على عبقريته. الطيب صالح، الملقب بعبقري الرواية العربية، كاتب سوداني ولد عام 1929 في قرية كرمكول في إقليم مروي بالمديرية الشمالية. منعه شغفه بالأدب من إكمال تدريسه الجامعي في كلية العلوم بجامعة الخرطوم فاتجه للتدريس بمعهد بخت الرضا، ثم سافر إلى إنجلترا عام 1953 ليتخصص في دراسة الشؤون الدولية السياسية.

في 1962 أصدر صالح أولى أعماله وهي عرس الزين، التي قام المخرج الكويتي خالد الصديقي بتحويلها إلى فيلم عُرض في مهرجان كان السينمائي. أثناء قضاء إجازته في جنوب فرنسا بدأ صالح كتابة عالميته موسم الهجرة إلى الشمال، والتي تعد أشهر رواياته. لكن الرواية لم تر الضوء حتى عام 1966 عندما نشرت في مجلة “حوار” البيروتية لأول مرة، ثم نشرتها دار العودة ببيروت وسلسلة الهلال بالقاهرة.

اختلف العديد من النقاد حول أسباب شهرة موسم الهجرة إلى الشمال التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، لكن أغلبهم اتّفق على أنها أول عمل روائي يتناول ثنائية العلاقة بين الشرق والغرب وبين البلد المستَعمَر والمستعمِر. يتحدث صالح في روايته عن قضايا إنسان العالم الثالث بتقاليده وهمومه وطموحاته، كما يناقش قضايا الهجرة والغربة، وبخاصة صدام الحضارات وهيمنة الغرب الثقافية على الدول الأفريقية. يقول صالح: “لقد شحنت موسم الهجرة بالغربة إلى حد كبير، وهو أحد أهم الموضوعات للمواجهة بين الشرق والغرب – بين العالم العربي الإسلامي وأوروبا الغربية”.

لم تنل رواية موسم الهجرة إلى الشمال استحسانًا وقبولاً عالميًا فحسب، بل وحولت إلى فيلم سينمائي، كما اختيرت واحدة من أفضل مائة رواية في القرن العشرين على مستوى الوطن العربي. بالإضافة إلى موسم الهجرة إلى الشمال، أصدر صالح العديد من المؤلفات مثل “دومة ود حامد”، “بندر شاه”،  “منسي: إنسان نادر على طريقته” و “الرجل القبرصي”.

سياسيًا، لم يكن الطيب صالح منتميًا إلى حزب سياسي بعينه. وقد عبّر عن ذلك في كتاب على الدرب بقوله “كنت أحضر اجتماعات الإسلاميين والشيوعيين وأميل إلى الحديث في الجمعيات الأدبية، ورغم ذلك لم أنضم إلى أي جهة، فقد وقفت على الحياد”. ولكن بعد مجيئه إلى لندن مال إلى الاشتراكية الفابية وعبّر عن ذلك قائلاً “بعد الاطلاع على مجريات الحياة السياسية في إنجلترا وجدت نفسي أميل للاشتراكية العمالية وقرأت كثيرًا عن الفابيين”. في مدرسة لندن للاقتصاد التي أنشأها حزب العمال قرب مقر هيئة الإذاعة البريطانية، درس الطيب صالح العلوم السياسية. ويظهر هذا الميول في أدبه الذي غالبًا ما يدعو فيه إلى رفض انتهازية رؤوس الأعمال للفقراء واستخدام القوة لاستغلال البسطاء.

وكان صالح مؤمنًا بالديموقراطية كنظام حكم، فقد عبر في حديث له في مركز الحوار العربي سنة 1995 بأنه “لا بد من نظام ديمقراطي، ونحن طبيعتنا في السودان أصلها طبيعة ديمقراطية. لا تصدق الذين يقولون أن الشعب غير مؤهل للديمقراطية. لا يوجد شعب عربي، أو أي شعب إطلاقًا، ليس مؤهلا للديمقراطية. مهما يكن انتماؤه السياسي، فقد أفلح صالح من خلال أدبه في تسليط الضوء على الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية والدينية التي تعني الشعب السوداني خاصة والعربي عامة.

بعد انتقاله إلى لندن، عمل صالح بالقسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) ثم ترقى ليشغل منصب رئيس قسم الدراما. وتزوج هناك ببريطانية أنجب منها زينب وسميرة وسارة. في 1967، رجع صالح إلى بلده وعمل خبيراً في الإذاعة السودانية، ثم انتقل للعمل في وكالة إعلام قطر قبل أن يصبح مديرًا إقليميًا في هيئة اليونسكو بباريس وممثلها في الخليج العربي ما بين 1984 و1989.

حاز الطيب صالح في عام 2005 على جائزة ملتقى القاهرة الثالث للإبداع، وصدر حوله مؤلف بعنوان “الطيب صالح: عبقري الرواية العربية” لمجموعة من الباحثين في بيروت تناولوا فيه لغته وعالمه الروائي بأبعاده وإشكالاته.

في يوم الأربعاء الذي وافق 18-2-2009، عزّى السودانيون وغير السودانيين بعضهم البعض بوفاة الروائي العبقري الطيب صالح عن عمر يناهز الثمانين في أحد مستشفيات العاصمة البريطانية لندن. وقد تأثر الشارع العربي بهذا الفقد الكبير حيث حضر مراسم العزاء عدد كبير من الشخصيات البارزة والكتاب العرب منهم الرئيس السوداني عمر البشير و الصادق المهدي المفكر السوداني الكبير.وكانت العديد من المؤسسات والمراكز الثقافية في الخرطوم قد أرسلت قبل شهر من وفاته رسالة إلى الأكاديمية السويدية ترشح فيها صالح لنيل جائزة نوبل في الآداب.

مع الذكرى السنوية الأولى لوفاة الأديب الراحل، أعلنت الشركة السودانية للاتصالات  (زين) في فبراير 2010 عن إطلاق جائزة الطيب صالح العالمية السنوية للإبداع تخليدًا لاسم الطيب صالح وإحياءً لذكراه.  تفوق قيمة الجائزة مائتي ألف دولار أمريكي، وتشمل مجالات الرواية، القصة القصيرة، ومجال ثالث من مجالات الإبداع الكتابي يختاره مجلس الأمناء سنوياً.

برحيل الطيب صالح، فقد العالم كاتباً عبقريًا سطر إبداعه أعمالاً أدبية سحرت القراء. تحدت رواياته سباق الزمن ببساطتها وتصويرها الجذاب للمشاهد المحلية، وبالأخص “موسم الهجرة إلى الشمال” التي تعتبر ثورة في عالم الرواية العربية وذخرًا أدبيًا لا ثمن

Please follow and like us:

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial
EMAIL
Facebook
INSTAGRAM