الثقافة والقراءة العربية تتدهور

مشهد مألوف
كتابٌ مرميٌ على أحد الرفوف، تكاد العاملة المنزلية تكون الوحيدة التي تلمسه حينما تقوم ب “نفض الغبرة” المتراكمة على صفحاته المهجورة من قبل أفراد المنزل. هذا هو المشهد الذي نستحضره عند التفكير بعلاقة فرد أو عائلة عربية بالكتاب. هي علاقة غير وطيدة، تأثرت ببدائل خارجية، حلّت محل الكتاب العربي، حتى أصبح الفرد العربي بعيداّ كل البعد عن الثقافة. كان هذا رأي أحد الجمهور، إسماعيل زينو(60 عاماً) الذي حافظ على علاقة قوية مع الكتاب العربي، لفترة تقارب خمسين سنة. فبرأيه، الأعداد الهائلة التي يكاد يستقطبها معرض الشارقة الدولي للكتاب، لا تأتي سوى من أجل “المشاركة الاجتماعية” وليس سعياً ل “شراء الكتب بهدف القراءة”.
عدد القرّاء في حالة تراجع على صعيد الوطن العربي
معرض الشارقة الذي أتى هذه السنة ضمن دورته الثامنة والثلاثين، استضاف حوالي 2.38 مليون زائر، و1874 عارضاً لأكثر من 1.6 مليون كتاب . رغم ذلك، أكدت احصائيات اليونسكو عام 2018 أن إنتاج الكتب في البلدان العربية لم يتجاوز 1% من إنتاج العالم، رغم أن العرب يُشكلون 5% من سكان العالم. أما ما كشفه تقرير التنمية الثقافية الذي تصدره مؤسسة الفكر العربي عام 2012، فإن متوسط قراءة الفرد الأوروبي هي نحو 200 ساعة سنوياً، بينما تتناقص القراءة لدى الفرد العربي إلى 6 دقائق سنوياً. وأشار التقرير إلى أن كل 20 عربي يقرأ كتاباً واحداً في السنة، بينما يقرأ كل ألماني 7 كتب في السنة، أي يقرأ 20 ألمانياً 140 كتاباً في السنة، في حين يقرأ 20 عربياً كتاباً واحداّ فقط.
إجابات تلقائية
وفي سؤالٍ وُجّه لعائلة من الجمهورعن مكان القراءة في حياتهم، كانت إجابة طفلة (7 أعوام) أنها لا تقرأ أي شيء خارج عن منهاجها الدراسي. فهي تقضي معظم وقتها في مشاهدة فيديوهات اليوتيوب على الأيباد. أما أمها الأربعينية، فتميل لقراءة بعض الروايات من شهر لآخر. وكانت إجابة فتاة مراهقة (17 عاماً) أنها تأتي للمعرض لشراء بعض الكتب كل سنة، لكنها لا تجد الوقت المناسب لقراءتها.
القراءة منذ الصغر
وبخلاف الأجوبة السابقة، كانت إجابة محمد جناحي، شاب ثلاثيني، أن أول كلمة نزلت في القرآن هي “اقرأ”. فهو يخصص وقتاً يومياً، يقارب أربع ساعات للقراءة فقط. وفي سؤالٍ عن انعكاس القراءة على ثقافته، قال إنه بات مدركاً لفائدة القراءة منذ صغره بسبب عادة القراءة التي جعلتها أمه المحامية جزءاً من يومه. فهو يرى أن كل كتاب هو أشبه بالحقل، مؤكداً أن الوصول لكل حقل والاطلاع عليه هو أمر بالغ السهولة، كون “المعلومة اليوم جداً سهلة”.
الإقبال ينخفض
وعبّر حسن سعيد، ناشر في دار جامعة الخرطوم للنشر، أن إقبال الناس على شراء كتبه يكاد ينخفض كل سنة. الأنواع الأكثر مبيعاً منها هي الثقافية. برأيه أن الجيل القديم هو الجيل القارئ، أما هذا الجيل فهو دائماً مشغول بالرسائل النصية التي تحتل جوالاته الصغيرة. ومهما حدث، قد تجد بديلاً لما تقرؤه على الشبكة العنكبوتية، لكن لا بديل لما يُدوّن على الكتب. ربما تشتري بعض الناس الكتب، لكن لا تمتلك هدفاً “فهم ما تقرأ”، فالناس “تقرأ ما تبتاعه قراءة سريعة”.
هجر الكتاب، أسبابه تعددت
وترى أيضاً روضة استانبولي، ناشرة في دار الحصاد (سوريا)، أن جيل الشباب هو جيل هاجر للكتاب. فكل ما يهتم به الشباب هو آخر أخبار أحد المشاهير على وسائل التواصل الاجتماعي. من جانب آخر، تكاد فئة متوسطي العمر تكون الفئة الأكثر شراءً لكتب الدار. والإقبال يكاد يكون كبيراً على الكتب ذات الأسماء المعروفة أو الكتب المتعلقة بالنزعات الإلهية. وقالت استانبولي: “بشكل عام إقبال على الكتب، لا يوجد… تخيّلي أنه لدينا كتب جميلة جداّ لم يحدث لنا أن يسأل عنها أحد”. وأكدت أن الثقافة تكاد تكون معدومة وأنه “لا يوجد ميل للقراءة”.وأضافت أن الناس تأتي للمعرض بغرض التسلية والمتعة، فالأمر أشبه ب “التسوق في المركز”. وأما عن فئة الناس التي تبتاع الكتب فغرضها فقط “إظهار أنها فئة مثقفة أو أنها اشترت كتاب”، خصوصاً فئة النساء التي تأتي لتظهر للمجتمع أنها مثقفة، لكنها لا تمتلك اهتماماً حقيقياً بالكتب.
لا قيمة للكتب!
اليوم الناس تأتي للمعرض، وتبتاع الكتب أي وكأنها تبتاع “كيساً من البطاطا”، تجادل البائع على كتاب قيمته 100 درهم لشرائه بمبلغ 10 دراهم، حيث يظن طوني عبود، ناشر في دار المجاني (ش.م.ل لبنان)، أنه لا تقدير للكتاب العربي اليوم. فالجيل السابق كان يخصص وقت معين للقراءة يومياً، مثل قبل النوم. من جانب آخر اليوم الناس تبتاع الكتب، ثم تضعها كزينة أخرى في مكتبتها العتيقة. وكون أبرز الكتب المباعة في دار مجاني هي كتب الأطفال، فقد وضّح عبود أن إقبال الأهالي على شراء الكتب يكاد ينخفض سنة بعد أخرى.
نظرة مختلفة: إقبال أكبر
وبخلاف الناشرين السابقين، كشف أحمد عبد الحميد، ناشر في دار الفاروق للنشر والتوزيع أن إقبال الجمهور على كتب الدار زادت عن السنة الفائتة. والكتب المفضلة لديهم هي الكتب المترجمة والكتب المختصة بالإدارة البشرية. من جانب آخر، نسبة الذين يبتاعون الكتب قليلة، عموماً.
التغيير الحقيقي مطلوب
وكي يعيد الكتاب حياته بين القرّاء، فنحن نحتاج ل ” وساطات لقطع الكهرباء وقطع وسائل التواصل الاجتماعي” ووقف مؤقت ل “منافذ المعرفة المعاصرة”، بحسب رأي زينو. فهي السبب وراء الانجراف بعيداً عن الكتب. الإجابة المحتملة من البعض عن العودة للكتاب، برأي زينو، هي: “أنا لست مضطراً أن أقرأ.. أستطيع أن آخذ المعلومة من فيديو صغير أو من فيلم سينما”. وربما ستكون النتيجة من هذا الحل هي: ” الناس التي هي حقا بحاجة للثقافة والمعرفة سوف تعود للكتاب بالضرورة”. وستزداد حرية الاختيار لدى القارئ، كون الذي يقرأ من وسائل التواصل الاجتماعي، لا يختار ما يقرأه بحرية. وإنما، “يُفرض عليه ما يقرأ”. ما نلتهي به عن القراءة، أو بالأحرى، ما نقرأه عوضاً عن الكتاب الورقي يختفي. النتيجة هي العودة للأساسي، ألا وهو الكتاب.
وترى استانبولي أن الحل ليس بسيطاً، الحل جذري. فنحن نحتاح أن نعيد تأهيل “المجتمع بأكمله” على “الثقافة والقراءة”. لا يمكن علاج المشكلة في مكان واحد في المجتمع، بينما الأمكنة الأخرى “مريضة”. فالمشكلة هنا حقيقية، وشاملة للجميع. ويرى عبد الحميد أننا قد نبدأ بالجيل الصغير، ونعوّده على القراءة، خصوصاً داخل المداراس العربية.