”الانتماء لكل مكان ولا مكان“ … معضلة أطفال الثقافة الثالثة

”من أين أنت ؟“، هذا السؤال التقليدي الذي يطرحه الناس في لحظات التعارف الأولى قد يعتبره الكثيرون سؤالاً عادياً. وحدهم أطفال الثقافة الثالثة هم من يتوفقون عنده مطولاً.
”أنا مصرية الأصل عمانية النشأة“، هكذا أجابت إسراء عبد الرؤوف (٢٤ سنة) عندما طرحنا عليها سؤال ”من أين أنت“. إسراء ولدت في بلدها الأم مصر، وانتقلت مع أسرتها للعيش في سلطنة عمان وهي تبلغ من العمر ٣ أشهر. بالكاد تفتح عيناها، فلم يسعفها الوقت حتى لالتقاط بعض المشاهد والصور من الوطن لتخبئها في ذاكرتها. تقول إسراء ”لا أعرف ما هو تعريف الانتماء تحديداً، ولكن إن سألتني ما هي البلاد التي أتحرق للعودة إليها عندما أسافر إلى الخارج فهي السلطنة، ما هو فريق كرة القدم الذي أبكي عند فوزه فهو الفريق العماني، أين تسكن روحي ؟ في أراضي السلطنة العمانية!“.
أطفال الثقافة الثالثة هم الأطفال الذي يقضون السنين الأولى (٠-١٨ عام) من حياتهم في أوطانٍ غير أوطانهم الأم، فيصارعون أزمة هوية يخلقها اختلاف الثقافات والمجتمعات، وهو مصطلح ينحدر من خمسينات القرن الماضي أطلقته عالمة الاجتماع الأمريكية روث هيل.
إن النشأة بين عوالم وثقافات مختلفة من شأنها أن تصنع أزمة هوية في شخصية الطفل، إذ إن وعي الإنسان يتكون من الأشخاص الذين يحتك بهم، والمواقف التي يعيشها والثقافة التي يكون منخرطاً فيها، لذا فإن التنقل بين بلدان وثقافات مختلفة قد يتسبب في خلق زعزعة وعدم استقرار في نفس الطفل، خاصة من يتنقل أهاليهم عدة مرات لا مرة واحدة خلال السنين الأولى في حياة الطفل.
يحكي عبد الله (٢٣سنة) -سوداني الأصل إيرلندي الجنسية- عن حياته فيقول ”ولدت في إيرلندا. وبقينا هناك حتى أتممت عامي الرابع، ومن ثم انتقل والداي إلى المملكة العربية السعودية حتى أتممت عامي الثاني عشر، منها إلى السودان وأخيراً دبي ولا أعلم أين هي محطتي القادمة“. ويستطرد عبد الله قائلاً ”لم أتأثر سلبياً بالأمر، بل أنني تعلمت كيف أتأقلم مع ثقافات مختلفة، وأثر الأمر في جعلي شخصية مرنة ومتسامحة، إذ إنني أعزي التصرفات التي قد تزعجني من الناس لاختلاف الثقافات، إلا أنني كنت دائماً أشعر أني مختلف أو غير منتمٍ أثناء وجودي في السودان“.
إذاً فإن الشعور بالاختلاف أو عدم الانتماء ولو بنسبة بسيطة هو نتيجة حتمية لانتمائك لأطفال الثقافة الثالثة. إلا أنه وفي الجانب المقابل، الاضطرار على التعايش مع ظروف معيشية وبيئية ومجتمعية مختلفة، ينمي مهارة التأقلم لدى الإنسان، فيصبح من السهل أن يندمج ويذوب في أي تركيبة مجتمعية. قد تبقى الغربة تحاصره من الداخل، لكنه لن يكون غريباً من منظور الآخرين على الأقل.
ومن جانب آخر فإن أطفال الثقافة الثالثة يملكون نظرة أوسع وأنضج للحياة وللعالم بسبب احتكاكهم مع ثقافات مختلفة، فمثلاً يمكنهم التحدث بأكثر من لغة وهم أكثر وعياً وأكثر نضجاً.
لانا سلوم (٢٤ سنة) أعربت لنا عن شعورها حيال انتقال والديها من سوريا إلى السعودية وأخيراً الإمارات قائلةً: ”لم أستطع أبداً أن أخرج سوريا من قلبي ومن ذكرياتي، لا أشعر أنّي أنتمي إلى المكان أو حتى الناس، لا شيء يسعدني هنا ومهما حاولت هنالك مساحة فارغة في داخلي لم أستطع ملأها بعد أن غادرنا سوريا، كما وأنني أشعر أني أنضج وأكبر سناً ممن هم في عمري مما يصّعب علي إنشاء صداقات معهم“.
وفي هذا السياق، فإن العولمة هي أحد الأسباب الرئيسية لوجود أطفال الثقافة الثالثة. فكما يقال دائماً ”العالم أصبح قرية صغيرة“ بسبب العولمة، مما جعل التنقل بين قارات العالم أمراً هيناً. وفي المقابل يمكن للعولمة أن تخلق لأطفال الثقافة الثالثة روابط وهمية مع واقع محاكي لواقعهم الذي يشتاقون إليه في أوطانهم الأم.
وفي النهاية، الوطن حيث يسكن الأحبة، فكلّنا غرباء أينما حللنا، حتى نألف المكان والناس فنصبح مواطنين رسمين فيه.
الصورة من موقع : Imperial war museum photographs collection